مقالات واراء

من القسطنطينية إلى القاهرة غزوا أم فتحا … بعيدا عن المكايدة السياسية

بقلم : محمود بدر

بالرغم من مقولة أن التاريخ يكتبه الأقوى , فحتى الحقائق التاريخية الثابتة عرضة للتأويل و التفسير حسب الأهواء و الاتجاهات, نرى ذلك جليا فى الفترة الأخيرة فى تناول التاريخ العثمانى سواء فى غزوهم لمصر و الشام و قبله فتح القسطنينية و ذلك لأن بطلى القصة من منبع واحد و أسرة حاكمة واحدة فقد عانا من سيف التعميم عليهما إما تقديسا للسماء و إما بخسا لأسفل سافلين .

و للأننا فى محاولة محايدة لاعطاء الأحداث وصفها الطبيعى و بتجرد قدر الامكان نحاول فى الفقرات القليلة التالية ابراز وجهة نظر محايدة, و ليس الغرض من كتابة هذا المقال محاكمة أى من أبطال التاريخ سواء أساءوا أم أحسنوا لأن مرجعنا فى ذلك قوله تعالى :

“تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يعملون ” ولكن الغرض الأساسى فى هذا المقال نقل الصورة التاريخية على ألسنة من عاصروا تلك الأزمنة , فهم الأولى بالحديث فى أمور رأوها رأى العين و ليس من سمع كمن رأى , و لنرى ماذا كان رأيهم أكان فتحا أم استعمارا.
و لكن دعونا بداية نتفق على تعريفا للمصطلحين لنصل للمقصد من حديثنا :

فالاستعمار هو تدخل عسكرى لدولة معتدية على دولة أخرى بقصد الاستيلاء بشكل منظم على خيرات وثروات البلاد المستعمرة.

أما عند حديثنا عن الفتح الاسلامى نجده كان معنيا بنقل رسالة إلى شتى بقاع الأرض و تنتهى مهمته على يد الفاتحين لينتفع و يحمل راية حضارته أناسا لا علاقة لهم بالفاتحين , و ينتقل العمران و الحضارة إلى بلدان أبعد ما تكون عن مركز الفتح , و هذا أبعد ما يكون عن الفكر الاستعمارى الذي يقوم باستجلاب كل ما يستطيع من مستعمراته و يصب فى خزانة دولة الاحتلال. فبعد الموجة الاستعمارية الأوربية عمرت لندن و باريس و سائر الدول الأوربية أما بعد الفتوحات الاسلامية فنجد أن أغلب منارات الحضارة الاسلامية التى أسسها الفاتحون كانت فى بلدان أبعد ما تكون عن مركز انبعاث الغزو الاسلامى الرئيسى فى المدينة المنورة بل انتقلت إلى بقاع أبعد ما يكون عنها (مثل القاهرة فى مصر – وبغداد فى العراق -و مدريد فى أسبانيا ) و غيرهم الكثير فى شتى بلدان العالم القديم .

من فهمنا المعايير السابقة نستطيع أن نضع الأمور فى نصابها الصحيح – و حين الحكم عليها ينبغى أن نستعير عيون من شهد الواقعتين من المؤرخين ذوى السمعة و الرأى المحترم فهم الأولى للحكم على الأحداث لا من اتبع هواه , ولنجد أن الحالة الأولى لفتح القسطنطينية التزم محمد الفاتح إلى حد كبير بكثير من الاعتبارات و المعايير الاسلامية, فتمت معاملة سكان القسطنطينية معاملة حسنة فلم يجبروا على تغيير دينهم أو يعانوا من التضييق عليهم فى حياتهم الدنيوية و الدينية , و على الجانب الآخر من العالم الاسلامى استقبل خبر فتح القسطنطينية بحفاوة بالغة خاصة فى القاهرة عاصمة الخلافة الاسلامية فى ذلك الوقت , و يذكر المؤرخ المصرى أبى المحاسن ابن تغرى بردى فى كتابه النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة – حين وصل خبر فتح القسطنطينية ” ﻓﺴﺮ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﻭﺍﻟﻨﺎﺱ ﻗﺎﻃﺒﺔ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﻔﺘﺢ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ، ﻭﺩﻗﺖ ﺍﻟﺒﺸﺎﺋﺮ ﻟﺬﻟﻚ، ﻭﺯﻳﻨﺖ ﺍﻟﻘﺎﻫﺮﺓ ﺑﺴﺒﺐ ﺫﻟﻚ ﺃﻳﺎﻣﺎً، ﻭﻗﺪ ﺍﺣﺘﻔﻠﺖ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺑﺰﻳﻨﺔ ﺍﻟﺤﻮﺍﻧﻴﺖ ﻭﺍﻷﻣﺎﻛﻦ ﻭﺃﻣﻌﻨﻮﺍ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻐﺎﻳﺔ ” و يذكر ذلك المؤرخ ابن اياس الحنفى أيضا فى كتابه – بدائع الزهور فى وقائع الدهور – قائلا ” ﻓﻠﻤﺎ ﺑﻠﻎ ﺫﻟﻚ ﻭﻭﺻﻞ رسل ﺍﻟﻔﺎﺗﺢ، ﺩﻗﺖ ﺍﻟﺒﺸﺎﺋﺮ ﺑﺎﻟﻘﻠﻌﺔ، ﻭﻧﻮﺩﻱ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺎﻫﺮﺓ ﺑﺎﻟﺰﻳﻨﺔ، ﺛﻢ ﺃﻥ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﻋﻴﻦ ﺑﺮﺳﺒﺎﻱ ﺃﻣﻴﺮ ﺁﺧﻮﺭ ﺭﺳﻮﻻً ﺇﻟﻰ ﺍﺑﻦ ﻋﺜﻤﺎﻥ ﻳﻬﻨﺌﻪ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﻔﺘﺢ ” .تلك كانت الصورة التى وصلتنا عن وقائع فتح القسطنطينة على ألسنة من عاصروها.

أما غزو سليم الأول للقاهرة فالحكم عليه أيضا يكون على ألسنة معاصريه و لنرى ما شاب ذاك الغزو من اللصوصية و الاسراف فى الدماء , و هو ما يختصره ابن اياس فى نفس كتابه أيضا بقوله “ثم هاجم العثمانيون بيوت الأمراء والأعيان ينهبونها، و صار الزعر والغلمان ينهبون البيوت في حجة العثمانية، فانطلق في أهل مصر جمرة نار , وطال الخطف جماعة من الأطفال والعبيد السود، و استمر النهب عمّالًا في ذلك اليوم إلى بعد المغرب “.

و يختتم قوله بأبيات شعرية رثاء لحال القاهرة قائلا :
نبكي على مصر وسكانها :: قد خربت أركانها العامرة
وأصبحت بالذل مقهورة :: من بعد ما كانت القاهرة
و بعد أن نهب سليم و جنوده ثروات القاهرة لم يكتفى بذاك , بل استكمله بنهب البشر أيضا و عاد إلى الاستانة بكل ما استطاع حمله من الصنايعية و الحرفيين فاختفت من مصر خمسين حرفة كما يذكر ابن اياس فى كتابه , فجرف البلد من كل خيرها حجرا و بشرا , و أتبع ذلك أخذه للخليفة العباسى ليتنازل له عن الخلافة – و لنا أن نتخيل كيف تم ذلك – و لم يكتفى جنوده سرقة المحال و القصور حتى اقتفوا أثر نساء المماليك و منهن زوجة السلطان طومان باى فحبسوهن حتى دلت كل واحدة منهن بما لديها من جواهر أو أحجار كريمة فكان ذلك ثمن فك أسرهن.

فالشاهد من القصتين ان تصل الرسالة لكلا الطرفين الذين يقدسون أو يبخسون أى من الشخصيتين تعميما حسب الأهواء , أن محمد الفاتح لم يتوجه بالغزو إلى البلاد الاسلامية و احتفظ بعلاقات جيدة مع كل دول العالم الاسلامى و خاصة مصر , و أحسن معاملة سكان الاستانة بعد الفتح و استقبل العالم الاسلامى أنباء الفتح باعتباره نصرا للاسلام و المسلمين قاطبة .

أما سليم الأول لم يكن إلا باغيا و لصا سرق البشر و الحجر و الخلافة , ابتدأ سلسلة القتل فى بلده بقتل أخوته أحمد و قره قود و أبنائهما الثمانية و غالبهم أطفال قصر, ثم أتبعهم بقتل جده لأمه علاء الدين ذى القادر و ترددت الأنباء عن قتله لأبيه بالسم أو أن أباه مات كمدا بعد خلعه عنوة عن العرش , فكيف و تلك نقائصه فى أهله فما بالنا بالغرباء عنه.
وعلى الجانب الآخر كان السلطان المقاوم طومان باى نموذج للحاكم الذى أحب المصريين و أحبوه رغم قصر عهده, و مع ذلك لم يسلم من النقد و التجريح ارضاء لأسلاف سليم الأول , و بالعودة مرة أخرى لكتاب ابن إياس واصفا مشهد اعدامه بقوله: أخرجه الحرس من السجن و ظل يلقى السلام على الناس ، حتى بلغ الباب – باب زويلة – فرأى مشنقة منصوبة فأدرك مصيره، فالتفت للناس وطلب منهم أن يقرأوا له الفاتحة ثلاث مرات، ثم قرأها معهم وقال للجلاد: «اعمل شغلك». و يختم إياس وصفه المؤثر « فلما شُنق وطلعت روحه صرخت عليه الناس صرخة عظيمة، وكثر عليه الحزن والأسف فإنه كان شابا حسن الشكل كريم الأخلاق ».

حقا كانت أمة قد خلت و لكن حق علينا من واجب الأمانة أن نضع أبطال التاريخ كل فى المكانة التى يستحقها فى ذاكرة و وجدان الشعوب لنقتدى بالمصلح و نحذر سقطات كل مسئ , ولأن التاريخ ليس ملكا لأصحاب الأغراض فى فترة ما , بل هو حقنا فى الحاضر و أجيال المستقبل كافة , و ليت ذلك يكون بعيدا عن أى مكايدة سياسية .

رئيس النحرير

المشرف العام على موقع العالم الحر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى