اخبار عربية وعالمية

نظرة فنية على نصب بغداد وتماثيلها

بقلم الكاتب : رعد التميمي
لعل ابرز ما يميز العديد من الأعمال الفنية من نصب وتماثيل وجداريات في شوارع وساحات بغداد, هو اشتغالها على ثيمة الحدث واللحظة التأريخية التي كانت حاضرة في ذهن الفنان وأصبحت بفعل عوامل عديدة ـ سياسية واجتماعية ـ مرتكزا لصيرورة تلك الأعمال واختزال ذلك الحدث بعمل فني إبداعي يمارس فعل ووظيفة الاستمرارية والديمومة, مؤطر بإبعاد جمالية, لمجرياته التاريخية , متخذا بعدا زمانيا متواصلا تكاد تزداد أهميته كلما تقدم به الزمن..
وقد تكون هذه هي إحدى وظائف الفن في تجدد تأثير الحدث التاريخي وربما إعادة قراءته من جديد وفقا لمعطيات جديدة تحددها اللحظة الراهنة لخلق معادل موضوعي معها..
وتكاد تكون الأعمال النحتية هي العلامة البارزة والسمة الغالبة لباقي الأعمال الفنية المعروضة في فضاءات المدينة لأنها ـ باعتقادي ـ الأقدر من غيرها على إعطاء وتكوين انطباع الاستمرارية والديمومة المتأتي أساسا من طبيعة خاماتها المصنوعة منها قبل أي شيء آخر.. بحيث تكاد تكون شبيهة بتضاريس أوجدتها الطبيعة منذ الأزل لتستمر إلى ما لا نهاية , بعكس الخامات الأخرى التي ليس بمقدورها الصمود طويلا أمام متغيرات المناخ وقسوته في الفضاءات المفتوحة..
ولم يحظَ قسم كبير من الأعمال النحتية بفرصة الانسجام مع الأمكنة المعروضة فيها من حيث الدلالة والمضمون باستثناء عدد قليل منها يعد على أصابع اليد الواحدة ربما.. وهو خلل قد يؤثر بلا شك على مدى قدرة النصب أو العمل الفني في إيصال شفراته المضامينية إلى المتلقي , محدثا نوعا من الإرباك في استيعاب الدلالات التي يختزنها العمل الفني كونه لاينسجم وطبيعة المكان..
إن أجمل ما يميز الأعمال النحتية العراقية في بغداد , هو ذلك التنوع في أساليب تنفيذها ومدارسها الفنية المختلفة وفقا لمرجعيات الفنان المعرفية وفلسفته الجمالية الخاصة , إلى جانب قدرته على استلهام التراث والتأريخ الفني ومزاوجته من خلال وعيه وقدرته الإبداعية مع هذه المصادر لينتج في النهاية أعمالا متفردة تستمد عناصرها الجمالية إضافة إلى كل ذلك , من خصوصية بيئتها المحلية..
وتنبع أهمية الأعمال النحتية هذه من أنها قد أبدعتها أنامل قامات عراقية مرموقة في مجال الفن وأصبحت تشكل علامة فارقة في مسيرة الفن العراقي , ومدرسة تشكلت ملامحها منذ زمن طويل وأصبح من الصعوبة تجاوز اشتراطاتها الفنية والفلسفية وحتى الشكلية باستثناء بعض الأعمال التي سادت في الحقبة الماضية والتي حاكت مزاج السلطة آنذاك من حيث الشكل والمضمون وجاءت تكويناتها خالية من اللمسات الإبداعية التي بإمكانها إثارة الجدل الفكري والتأويل لمنجزها.. إذ سادت المباشرة في الطرح إلى جانب سذاجة مضامينها وسطحيتها وبذلك أصبحت في يوم ما نقطة سوداء في تأريخ النحت والفن العراقي عموما..
وتكمن روعة الأعمال النحتية المهمة في بغداد في أنها كانت امتداد لأساليب النحات السومري والأكدي والآشوري بمنظور حديث وتقنيات معاصرة وموضوعات شعبية وأخرى تراثية انصهرت فيها الأزمنة وغابت الحدود الفاصلة بينها لتخلق في النهاية جوا إبداعيا ونصوصا بصرية تمنح المتلقي دفء اللحظة لاستحضار التاريخ ومعايشة الحدث الذي أوجدها وجدانيا وبذلك تكون قد حققت بعدا زمنيا لايكاد يتوقف أبدا..

زر الذهاب إلى الأعلى