الأدب و الأدباءالثقافة

قوالب في جوف واحد

بقلم الاديب

عبدالزهرة خالد
البصرة
نسمع المثل العراقي ( سبع صنايع والبخت ضايع ) لكن هناك من يخالف المثل فعندما تقارن بين من يملك شهادات عالية لا يعمل في أمور حياته ولا يتجاوز عمله حدود منضدة اختصاصه على كرسيه الدوار بينما تجد إنساناً مثابراً يعمل كل شيء يحتاجه ولا يطلب مساعدة أحد عند الحاجة فهو الفائز بحياته .
يبدو عجبي ليس في محله بل في محل نصب مكسور في موشور النظر ، أزوره بين الفينة والأخرى قبل وفاته ، كان دؤوباً مجتهداً في كلّ الأشياء ويستعجل في معرفة الحلول الناجحة والتخلص من الفشل بأسهل الطرق وإن كلفه بعض الدنانير وعرق الجبين يتصبب على معاطف الشتاء ، لا يتوانى في ذرف النكتة من عينيه الناعستين وسط النّهار لأنه يحب أن يتناول فطوره مع ندى الغبش و(طقطقة الأبريق ) . فلاح ويعمل سائقاً لدى أحدى الدوائر يمتلك قطعة أرض يزرع ما يفيد الأخرين قبل أن ينتفع به عياله لم أره يوماً يبيع غلته .
لديه مضخة ديزل تسقي الحرث من النهر القريب لمزرعته يعرف كيف يصلحها عند العطل فلديه خبرة كبيرة في تصليح كافة الآليات والعجلات حتى دائرته تستعين به في إصلاح كل عطب وعطل ، كثير المشاوير بشاحنته القديمة وهو يحمل المواد والبريد بين أقضية ونواحي المحافظة .
لم يكمل الدراسة المتوسطة لكنه يعرف العلل والأمراض الدواجن والمواشي والغنم الذي يربيها فهو ماهر في تربيتها كأنّه طبيب بيطري وكريم لضيوفه عندما يطرح أحدها تحت أقدام الضيف .
يعرف كيف يؤسس لداره خطوط الكهرباء والمولدة الاحتياطية لديه خزين من البترول بكافة أنواعه يتصدى لكل الأزمات التي تمرّ فيها فهو لا يشعر بالضيق والضنك عندما حلّ علينا حصار عام ١٩٩١ بل بالعكس كان الممول الوحيد لمعارفه وأصدقائه وإن أولاده في أمس الحاجة لكل الأشياء .
يستغل أوقات فراغه في إختراعاته التي كادت أحداها أن تقتله لسهو بسيط حصل في استخدامه ، يستخدم علم الكيمياء بشكل كبير في معظم ألعابه .
سريع في استخدام العبارات والحروف إن لن تقرّب الأذن إلى شفتيه لن تلحق بالتقاط العبارات التي تتساقط كالمطرِ ، يضحك كثيراً حينما يسمع منك ما يضحكه ، يا لقوة كفه الخشن إذا صافحك يؤلم ذراعك حتما .
يحب الاشتراكية لكنه لا ينتمي للشيوعية يشارك الأخرين في السراء والضراء ، لا يحب السفر واعتقد أنه سافر للنجف المرة الوحيدة عندما حملوه في تابوته إلى مثواه الأخير .
رأيته مرة وهو يصعد النخلة لغرض ( تلكيح الطلع ) يغني موالاً بشجن ريفي يساوي عذوبة المياه الجارية في نهر دجلة ويلقي الشعر الشعبي كأنه أحد الشعراء خلف منصة يرددها بحماس ، ندمت على عدم سؤاله فيما إذا كان ينظم الشعر ، ربّما يعيش قصة حب مع زوجته .
في يوم نيساني وجدت سمرته أخذت من سحنته شوطاً كبيراً عرفت أنه كان منشغلاً طيلة ليلة أمس بترتيب أكياس الرمل على ( السدة )خوفاً من الفيضان عندما زادت مناسيب مياه دجلة على الشطآن .
لم أتذكر أنه أعتذر لي عن عدم معرفته أو عدم مقدرته في انجاز ما طلبته منه ، أشاركه في علبة سكائره التي ما لبثت أن يفتح علبة أخرى قبل الغروب ، لا يشكو جرحاً ووجعاً أم مرضاً جسمه بين الرشاقة والبدانة وطوله يناسب أن يتسلق سوراً مبنياً ضد اللصوص.
كنتُ في بداية شبابي عندما ألتقيته وهو يلهث خجلاً في شارع …… سألته ما بك ؟ أجابني بصراحة منذ ذلك الوقت جعلته رجلاً مثالياً حيث رافقته إلى مسكنه وقدم لي طعاماً لذيذاً بالزبد الطبيعي رغم والدته تدير شؤون أسرته المتكونة من عدة أخوة وأخوات . غرفته كأنها معرض لصور قديمة وحديثة وكم أدهشتني لوحة كان قد رسمها بالألوان الزيتيةِ على قطعة قماش معلقة فوق سريره ، سألته عن عائدية ماكنة خياطة في غرفته أجاب أنها له حيث يخيط بعض ثيابه أما مكتبته عبارة عن دولاب خشبي يكتنز العديد من الكتب القيمة والمجلات العربية وقد أخذت منه كتاب ( المنتمي واللامنتي ) لكولن ولسن . على ما يبدو أن عشيرته تعتمد عليه في كثير من الأمور والاستشارة العشائرية والقانونية ولو أنه معتدل في تدينه .
أشياء كثيره قد فاتتني عنه أو لم أعرف تفاصيل خصاله ألا أني عرفت بوفاته بعد سنوات من انتقالي إلى محافظة أخرى وأعتقد لم يقتله المرض ربّما موت الفجأة كان حلمي الذي لم يتحقق أن أمتلك مواهبه .
——————

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى