اسليدرالأدب و الأدباءمقالات واراءمنوعات ومجتمع

المصيدة

الكاتبة : هدى توفيق : مصر

حياتك كلها آشبه بعلبة ثقاب مطفأة ، وأنت تنفث دخان سجائرك المعتاد سيجارة…وراء سيجارة كمن يدهس الحياة بإنتحار بطئ ، عضلات جسدك كأعواد انطفأ وهجها بجرح لامفر منه ، لايندمل ، وقلب احترق بلا عودة كعود كبريت ، وغضب يمحق تفاصيل وجهك الأسطورية ، بدم بارد مثل حشرات ذوات الدم البارد .. إنه آشبه بكمين أفقدك عذريتك ، بل أنه كمين لا فكاك منه يانور…لا فكاك

قالت : أنت مشروع غير مكتمل ، وستكتمل على يداي الراغبة بك يا نور

قال : أنت شهية مرتجاه دوما للإقتناص يا زينب

إلى المتيمن بالألعاب السحرية ، لعبة البهلوانات الجديرة بالعقل الإنساني والحيواني معا

لتعرف كيف تستخلص سعادة طفل بعيدا ً عن ثدي أمه ؟

كيف تحول الماء إلى سحر ملائكي وجحيم دنتيي ؟

كيف تسمع عفويَّا صلصلات الزمن القديم ؟

كيف تكون فعالا ً تهوى التجوال ، متحررا ً من التحكم ؟

طيبا ً تعبد وجوه الآلهة المألوفة ، القريبة لقلوبنا ،

وتسرق وجوه الآلهة الأخرى لتتقمصها وتلبس

أقنعة الأشباح والبهلوانات الضاحكين والباكين

فى لحظات حاسمة للفراق .. للنهايات …..

وأخيرا ً .. ولا .. انتهاءاً للبدايات مرة أخرى

  • البيت دا مصيدة

أطلق نور على منزلنا اسم المصيدة ، شباكها تلتقط الصالح والطالح ، إنه منزل بلا أسماء ، منزل الجميع ، ليس له خصوصية ، إنه منزل ابن اللحظة التي يسجلها أحد أفراد اللوبي ، لوبي من الأصدقاء ، لا يتحرر إطلاقا من المصيدة ، إنه بلا أبواب موصدة وألعابنا مفتوحة للجميع ليس لها توقيت ، تبدأ اللعبة أجواءها بحضور أحد أفراد اللوبي ، ونور عليه أن يخبرنا بشروط اللعبة ، وعليه أن يبدأ اللعبة ، وعليه أن يختم اللعبة قائلا:

  • ” فى المصيدة مافيش ألقاب ، مافيش عناوين ، مافيش حدود ، هنا بنعالج مشكلة الكدب ، ونقول بصراحة الحقيقة ، اللي عايزين نقوله ونعمله يعني نعري نفسنا قدام بعض ، مكشوفين من غير تمثيليات ومجاملات ، خلفيتنا كل أشكال الموسيقى العظيمة ، هنا قلبنا وعقلنا زي المسرح ، مفتوح على المتفرجين ، عارفين مين هما المتفرجين والممثلين .. هما إحنا ” (1)

يقف نورعلى أعلى الكرسى ويرفع يديه وصوته ، قائلا:

  • نحن المتيمون بالحقيقة ،

والحقيقة متيمة بالصدق ،

والصدق متيم بصديقه العزيز الحب

تسأل فلة بشغف :

  • هنلعب إيه النهارده يانور؟

يبدأ  نور اللعبة قائلا:

  • اليوم سنتحدث عن مصر ، بعد ثلاث سنوات ونحن من ثلاث سنوات قادمة

  • الأستاذ : معيار تغيير مصر بعد ثلاث سنوات ، هو ميبقاش في مطبات ، تتلغي من الشوارع ، الطريق يبقى ……– بداية قصة قصيرة – إيه رأيكم ؟

هكذا هو أستاذي، كل شئ يقوله هو قصة قصيرة ، ودائما ناقصة

زينب : الستات ترجع تلبس فى كل الشوارع زي زمان ، قصير ، ومينى جيب

فلة : أطلع رحلة للقمر

الطبيب الفنان : محدش يموت من السرطان

نور: نحن  في هذا اللوبي سابقين الثلاث سنوات بمراحل  ويستطرد :

  • أحيانا ً نقول صعب جدا ً أن نتغير ، نحن هكذا أسوياء متفقون مع أنفسنا إلى أن يأتى بشر التغيير يدفعوننا إلى عملية انتزاع مضنية ، إلى أهداف وهوامش سوداء من العذابات القديمة أو تعاسات الحب الأولى ، فهناك دائما ما يدعوني لعالمنا الصغير ، عالم ما تحت الجلد ، عالم المحسوس والمجرد ، عالم التوتر والتحفز والمغامرة التي أعتبرها جزءا ً من تجربتنا اليومية الفنية ، وتحصلنا على قدر من الثقافة والمعرفة ورحابة الأفق ، فأنت ياصديقي تتنفس هواءها السام فى كل ليلة ، كل لحظة ، كلما أتاني الضيق وتسرب الضعف فى روحي ، أقاومه غير عابئ بانهياراتي ، أبحث عن شئ يجعل الحياة أكثر إشراقا قليلا ً ، حتى ولو راودني إحساس حقيقى بالجفوة من كل شئ حولي، ليصبح الخروج والدخول مستحيلا ً من المصيدة ، شعار منزلنا المسكون بعفاريت الحكى ، ميكروفونات الحوار ، بهلوانات التغيير ، أراجوزات التحريض

لقد كان يكتنفني نور بجو الفتوة والشباب الأسطوري المألوف بعمق ، وقد تدفقت فى عروقي دماء تلك الأيام وكل ما كنت قد فعلته وفكرت فيه وكنته منذ ذلك الحين

 مرة أخرى …. تبدأ اللعبة كالعادة بنور قائلا:

  • ” الفن هو التسلية ، فلماذا لا نحكي عن مأساة جيدة التراجيديا ومسلية ” ..تقاطعه زينب ، وتقوب بإعجاب :

  • إحكي يا نور

يستكمل نور:

  • ابتهج العالم عندما ولد ابنه الأكبر ، وكان اسمه الفن ، وقد كان طفلا ً وديعا ً ، فطري الجمال ، وفرح العالم له ، فمرة يصنع له الجبال .. ومرة يسيل بحوارا ً لا تحصى ، ولم لا ؟! فللإبن الأول معزة خاصة لا تزول مهما كبر وشاخ

يقول هاملت :

  • هكذا تنتهي الأمور ، وأنا أقول ليس من أمور لتنتهي ، لكنها إرادة مسبقة ولعنة أبدية ما الذى يعرقل حركتي لهذا الدأب المتواصل ؟ لم أكن صغيرا ً لأجهل أن الفن فقط هو الأداء الوحيد الذى لا تستطيع الآلهة أن تواجهه ، إنها تنتصر فيما دون ذلك ، بلا شك غرقت في استهلاك الحياة والأيام بأن هذا البسيط جدّا ً من الحقيقة

يسأل الطبيب الفنان بحياد :

  • إيه هو الجنون يا نور ؟

ينظر نور بإتجاه آخر كمن يظهر له شخص قائلا:

  • أنت .. أنت تظهر لي ثانية ، أم أنك روح ملعونة قد تكون قادمة  لي من زمن بعيد ، قد يكون الشرق ، فهو يبدو لي أحيانا ً أنه أصل لأشياء كبيرة تعيش بيننا تنسحب فى أجسادنا قبل عقولنا ، الإنسان الأول وكل هذا الهراء ، أم ما عساه أن  يكون لأقوله ، هل أصابني جنون ؟؟  أم مستني روح  غريبة بعيدة تسربت لي عبر رحلاتي فى المدن القصية دون أن أنال ملاذي ؟ ويسترسل:

  • الرجل يبدأ جنونه عندما يشعر بابتذال ، كون وجود حقيقة فى العالم لا يستطيع أن يتقبلها هنا .. لا يستطيع أن يستمر .. إنه التثبيت ، لكنه ربما لا يحدث مع كل شخص

إنني أتكلم عن الجنون  الذي يخصني ، أما الآخرون فلا يرون مانعا ً من احتمال الأشياء البسيطة المبتذلة ، وأن يكون لهم حياة أخرى سوف يعيشونها ، كل على حسب عقله ، لكنني أيضا من هؤلاء البشر جميعا

يسأل الأستاذ بتحَّد :

  • إيه هو الموت ؟

يجيب نور بثقة ، ودون أن ينظر إليه :

  • الأشياء تجمعها بعض الأداءات والمشاعر الصبيانية والإستهتار وعلاقة كل الأشياء حتى الممتزجة منها إلى حد الموت والملتصقة ببعضها كالجنين المجهول فى بطن أم عفية صغيرة .. الحب والعشق والفراق والعنف ، إنهم جميعا يموتون فى النهاية

  • أن تعيش فى العالم يجب أن تكون مقتنعا حقّا ً وبإيمان أصيل أن الموت هو مصير كل الأشياء ، وأعني جرس الدخول إلى الحصة الأولى واتجاه التلاميذ والمدرسين إلى الفصول .. بينما ظللت أنت وحدك فى الحوش ، لا يعبأ بك أحد ، أم لأنك أنت الذي تفعلها يا ملعون

( مشيراً إلى الأستاذ بتحٍّد أيضا )

تعود زينب مرة أخرى ، وتسأل بشجن :

  • إيه هي الموسيقى يا نور ؟!

يجيب نور  بابتسامة قائلا:

  • نحن لا نشاهد كمتفرجين مخلصين ، ورصيد موتي وموت كل الأشياء يمر ببطء ، على ارتفاع ايقاع موسيقي نقي وقوي .. نعم الموسيقى هي خلفية هذا الموت ، ألا تعرفون أنها أغنية القداس وتراتيل الأديان فى ردم الإنسان  تحت التراب .. فى النهاية لقد تصادف فى حياتي أن عرفت هذا كله

ثم ينظر نور لعيناي زينب ، ويتساءل بوله وحزن :

  • أيوجد مكان فارغ لأغنية رومانسية ، أم قد ملت المدافع أن تنشد أغنيتها الحزينة ، إنها كتحفة مخبوءة لا أراها من كثرة الغبار والموسيقى تحتل غرفا ً كاملة من عقلي

يرتفع صوت فلة الخافت من وقت تسأل :

  • إيه هو الحب يا نور ؟

  • نعم .. خلقنا نحن البشر الحب ولكن رغم عذاباته ، ليس بأيدينا ألا نحب ، ويخرج من طوعنا التي لا كاسر لها، ينشر الحب نفسه على المعذب ، الهادئ ،المتذمر ، البائس ……

يجلس نور فجأة ، ويقول بحب :

  • جيل الأحلام العظيمة ، والانكسارات العظيمة تحب ، الجميع يحب ، فالحب هو :

فن .. تدفق .. زوال .. وانفصال ،

موسيقى .. انقلاب ، موت .. وذكرى ،

جنون .. وتفتيت ، مهما كان حبيبي ،

هو رغبة .. امتلاك ، هو حبيبى إلى الأبد

فجأة يطرح نور قضية أخرى جعلتنا ننظر له باندهاش أثير قائلا:

  • ما هو القصاص يا أصدقاء المصيدة ؟

  • هو طرح له درجاته لكل شخص ، ابتداء من شخص مثلي شقي ومقهور ، حتى رجل آبات نفسه فى أكوام وبراميل الزبالة ، من هو هذا الرجل ؟ وكيف يعيش بهذه الأحاسيس ؟ وسط حقيقة أن الأكل والشراب وكل الحاجات والكائنات تموت .. نعم ، إن كل شئ إلى زوال ، لأن هو ذات نفسه عبد من عبيد الزوال

يتجرع نور كأسا ً دسما ً أحضرته له زينب ، ويعبر دراميا ً عن نفسه قائلا ً :

  • آذاني العالم كثيرا بأفعاله الطيبة والخبيثة ، أنكرني العالم كثيرا ً ، وها هي الحياة تقول لي : إن كل هذا قد يضنيك لمصير مجهول ، وعقلى ينشغل فى نفس الوقت بموضوعات تافهة أحب أن أكونها الآن

 

 

(هذه المقولة مستوحاة من فيلم (الإختيار) للمخرج المصري الراحل يوسف شاهين )”1″

رئيس النحرير

المشرف العام على موقع العالم الحر
زر الذهاب إلى الأعلى