الثقافةصفحات من تاريخ مصر

** بيت الكريتلية **

بقلم المهندس/ طارق بدراوى

بيت الكريتلية ويسمي أيضا بيت الكريدلية أو الجريدلية أو سبيل ومنزل محمد بن الحاج سالم الجزار أو حاليا متحف جاير أندرسون عبارة عن منزل اثرى يتكون من بيتين هما بيت محمد بن الحاج سالم وبيت السيدة آمنة بنت سالم وتم الربط بينهما بجسر أو قنطرة ويعد هذان البيتان من الآثار الإسلامية النادرة والثمينة التي تنتمي إلى العصرالعثماني وهو يقع في أحد أعرق شوارع القاهرة القديمة وعلي ميدان هام من ميادين القاهرة وهو شارع وميدان أحمد بن طولون في حي السيدة زينب والبيت الأول من إنشاء المعلم عبد القادر الحداد عام 947 هجرية الموافق عام 1540م وهو المعروف بإسم بيت آمنة بنت سالم ونسب إليها البيت حيث أنها آخر من تملكته والتي يظن أنها من أسرة أصحاب البيت الثاني والذى بناه أحد أعيان القاهرة وهو محمد بن الحاج سالم بن جلمام عام 1040 هجرية الموافق عام 1631م ثم تعاقبت بعد ذلك الأسر الثرية على سكنه حتى سكنته سيدة من جزيرة كريت فعرف منذ ذلك الحين بإسم بيت الكريتلية وقد ساءت حالة البيتين على مر السنين وكاد أن يتم هدمهما أثناء مشروع التوسعة حول جامع أحمد ابن طولون في ثلاثينيات القرن العشرين الماضي مابين عام 1930م وعام 1935م فسارعت لجنة حفظ الآثار العربية بترميم وإصلاح البيتين ليصبحا من أروع وأبدع الأمثلة القائمة علي طراز العمارة في العصر العثماني وفي عام 1935م تقدم الميجور جاير أندرسون الذي كان من الضباط الإنجليز في مصر بطلب إلي لجنة حفظ الآثار العربية بأن يسكن في البيتين وأن يقوم بتأثيثهما على الطراز الإسلامي العربي وأن يعرض فيهما مجموعته الأثرية من مقتنيات أثرية إسلامية وحتى فرعونية وآسيوية على أن يصبح هذا الأثاث ومجموعته من الآثار ملكاً للشعب المصري بعد وفاته أو حين يغادر مصر نهائيا فوافقت اللجنة .

images

images-5

وبالفعل لم يدخر وسعا أو جهدا في تنظيم وتأثيث البيتين ولم يبخل بإنفاق المال على شراء الآثاث والتحف من البيوت الآثرية ومن أسواق العاديات في مصر وغيرها من البلاد فجلب للبيت الكثير والكثير من الأثاث والتحف والقطع الفنية التي تنتمي للعصور الإسلامية المختلفة منها صناعات عربية وصناعات من بلاد الصين ومن بلاد فارس ومن بلاد القوقاز ومن آسيا الصغرى ومن الشرق الأقصي ومن بلاد الشام هذا علاوة على بعض التحف من قارة أوروبا حيث كان أندرسون مهتما بالآثار من العصور المختلفة وخصوصاً الفن الإسلامي ولذلك قام بتجميع مجموعات أثرية نادرة في منزله وهي المعروضة حاليا في بيت الكريتلية وقد ولد جاير أندرسون في بريطانيا عام 1881م وعمل طبيبا في الجيش الإنجليزي وكان من بين الضباط الذين خدموا في الجيش الإنجليزي والجيش المصري في وادي النيل وإستقر أندرسون بمصر التي عشقها بكل جوارحه منذ عام 1906م وإعتبر أندرسون مصر وطنه الثاني فقد ذكر في مذكراته المحفوظة بمتحف فيكتوريا وألبرت والمسماة بأساطير بيت الكريتلية عن سر تعلقه بمنطقة طولون قدمت إلى القاهرة أول مرة عام 1906م وظهرت فتاة من إحدى المشربيات ونظرت إلى ثم إختفت ولعل تلك النظرة هى سبب تعلقى بالبيت وكأنها كانت نظرة خاطفة للمستقبل سمح لى بها القدر حيث أعود بعد 29 عاما مالكا لذلك البيت ويقول أيضا في مذكراته مصر أحب الأرض إلى قلبي لذلك لم أفارقها لأني قضيت بها أسعد أيامي منذ مولدي فقد إستقال جاير أندرسون من عمله كطبيب بالجيش الإنجليزي وسكن البيت وفقا لإتفاقه مع لجنة حفظ الآثار العربية بأن يتنازل عنه وعن كل ما جمعه من تحف فى بيت الكريتلية وأن يتحول لمتحف يحمل إسمه بعد مماته أو بعد مغادرته مصر نهائيا كما ذكرنا في السطور السابقة وكان يوم السادس عشر من شهر أكتوبر عام 1935م هو أول يوم لجاير أندرسون فى بيت الكريتلية بمصر وما أن توفي أندرسون عام 1940م حتي نفذت الوصية وآل البيتان وما فيهما إلى لجنة حفظ الآثار العربية التي جعلت منهما متحفا بإسم جاير أندرسون .
وعن وصف البيتين نقول إنه بكل منزل منهما فناء يمكن الوصول إليه عن طريق مدخل منكسر لا يسمح للمار فيه برؤية من داخل المنزل وتصميم المنزلين متشابه إلى حد كبير حيث قسم كل منهما إلى قاعات كبيرة تتكون كل قاعة منها من إيوانين متقابلين بينهما مساحة منخفضة تعرف بالدرقاعة كما نسقت الحجرات وكسيت بالبلاطات الخزفية والرخام وأقيمت في وسطها الفسقيات وعند الدخول إلي الفناء سيجد الداخل دكة كان يجلس عليها فقيه المنزل لتلاوة القرآن الكريم صباح كل يوم ويشرف على الفناء من الجهة الجنوبية مقعد نصل إليه من باب عليه عقد شاهق الإرتفاع محلى بالمقرنصات والنقوش الدقيقة وللمقعد عقدان يحملهما عمود رخامي يعلوه تاج يطلان على الفناء ويخصص المقعد عادة لجلوس الرجال في ليالي الصيف ونقش سقف هذا المقعد بنقوش زيتية متعددة الألوان كما كتب بحروف بارزة إسم المنشئ وتاريخ الإنشاء وفي المقعد صفت الآرائك وعليها الأكلمة ذات الألوان المتعددة الجميلة ولما كانت الدواليب الحائطية مخصصة لوضع الأواني فقد عرض بالخورنقات التي تعلوها أوان زجاجية بعضها على شكل زهريات أو طاسات أو قماقم من الزجاج الأزرق المعتم .

images-4

images-2

ومن المقعد يصل الزائر إلى قاعة كبيرة بجدارها الغربي بعض الشمسيات ذات الزجاج الملون وخصصت هذه القاعة لجلوس الرجال في الشتاء وهي تحفل بالفرش والسجاجيد التي تنقل لنا الصورة التي كانت عليها دور هذا العصر من الفخامة والثراء فقد أسدلت على الشبابيك ستائر من القماش الهندي المطبوع على كل منها رسم محراب بداخله شجرة سرو مزهرة كما نلاحظ بالجدار المواجه لمدخل القاعة صفة رخامية من ثلاثة عقود كانت معدة لوضع الطشت والأبريق الخاصين بالوضوء ويتوسط الجزء المنخفض من القاعة قرص رخامي من الألباستر الشفاف كان يستعمله صاحب الدار كمنضدة والإيوان البحري من القاعة به دولاب تعلوه تجاويف في الجدران بداخلها بعض الأواني الزجاجية البيضاء المعتمة وأمامه وضعت صينية بيضاوية الشكل من الألباستر ويزين هذا الإيوان مجموعة من الأطباق النحاسية منقوش عليها أساطير عن بيت الكريتلية والمنطقة التي حوله وبعضها لا يخلو من الطرافة .
ومن أهم قاعات بيت الكريتلية قاعة الحريم وتطل على فناء الدار في مواجهة المقعد وكذلك على الواجهتين البحرية والغربية وزخرفت هذه الغرفة من الخارج بالنوافذ والمشربيات الخشبية الجميلة بديعة الصنع وحتى السقف لم يترك خاليا من الزخرفة وقد حوت القاعة من مختلف التحف والمقتنيات ما يندر أن نجده مجتمعا في غرفة واحدة ويتدلى من سقفها ثريا من النحاس زخارفها مفرغة بعناصر نباتية وكتابات عربية قرآنية وتحتوي هذه القاعة على مخبأ سري ومن أبرز غرف هذا المنزل الغرفة البيزنطية وهي حجرة صغيرة مربعة وسميت كذلك لأنها تحوي تحف بيزنطية وقبطية وهذه الحجرة هي القنطرة التي تربط بين بيت الكريتلية وبيت آمنة بنت سالم وكذلك الغرفة التركية وسميت بهذا الإسم لأن معظم أثاثها يرجع إلى القرن التاسع عشر الميلادى وعلقت بها صور لبعض الأمراء المتشحين بالملابس المزركشة كما عرضت بالحجرة مجموعتان من الأواني الزجاجية إحداهما زرقاء والأخرى خضراء اللون وهما من الزجاج المموه بالمينا والذهب وقوام زخرفته عناصر هندسية منفذة بطريقة القطع وهي من صناعة بلدة بوهيميا بآسيا الصغرى وفرشت أرضية الحجرة بكليم أوروبي كبير بوسطه باقة من الزهور متعددة الألوان تحيط بها مراوح نخيلية وزخارف نباتية رائعة الشكل .

images-1

images-3

وبجوار الغرفة التركية توجد غرفة سميت بغرفة الملكة آن وسميت بهذا الإسم نسبة للملكة آن ستيوارت ملكة بريطانيا وأول ما يلاحظه الزائر في هذه الحجرة غلبة الطابع الأوروبي على أثاثها ويلفت النظر بها ثريا زجاجية بديعة الصنع تتدلى من السقف وهي ملونة باللون الأحمر الياقوتي كما نقشت عليها زخارف مذهبة على شكل سبع يقبض على سيف مسلول وهذا الشكل هو المعروف بالشعار الإيراني كما يوجد في ركنين من أركان الحجرة دولابان على شكل عقد نصف دائري عرضت بهما مجموعات من الخزف التركي كما توجد غرفة أخرى تسمي الغرفة الدمشقية وهي تتميز بجدران وسقف جلبت أخشابهما من أحد القصور القديمة بالعاصمة السورية دمشق ومما يزيد في قيمة هذه الأخشاب من الناحية الأثرية وجود تاريخ صنعها عليها وهو عام 1691م وقد حفلت الكسوة الخشبية بالنقوش البارزة المذهبة والمتعددة الألوان كما زينت الجدران من أعلى بأبيات من الشعر مكتوبة بحروف مذهبة وكلها في مدح الرسول الكريم محمد صلي الله عليه وسلم وداخل هذه الغرفة يوجد سرير والفرش الخاص به ودولاب خشبى كبير يخبىء بداخله تسريحة رائعة الشكل وبالإضافة إلي ماسبق توجد قاعة للإحتفالات تقع بالطابق الأول ويرتفع سقفها بإرتفاع المنزل وهي تنقسم إلى إيوانين كبيرين بينهما درقاعة أرضيتها مصنوعة من الرخام وبوسطها نافورة من الفسيفساء الرخامية تعد آية في دقة الصنع وجمال الشكل والزخرفة وقد فرشت أرضية الإيوانين بالأكلمة التركية التي تزدان بجامات مسدسة وزخارف هندسية متنوعة داخل أشرطة مختلفة بعضها ضيق والآخر عريض .
وقد أعيد ترميم البيت سنة 2000م بتمويل من مؤسسة أغا خان للعمارة الإسلامية وفى عام 2008م أقيمت مدرسة الطفل بحديقة المتحف والتى كان يقام بها ورش فنية لأطفال المنطقة للرسم والنحت والإرشاد السياحى وقد لاقت هذه المدرسة إقبالا كبيرا من أهالي المنطقة إلا أن نشاطها قد توقف للأسف الشديد عام 2011م وقد إشتهر بيت الكريتلية ببعض الروايات والأساطير والخرافات منها أن بيت عبد القادر الحداد تم بناؤه حول بئر يمكن رؤيته من صحن البيت وأن بمائه ملكات سحرية تجلب الخير كما أن البئر ذاته يؤدى إلي مدخل قصر سلطان الوطاويط والجن الذى يوجد في باطن الأرض والذى يحوى الكثير من الكنوز التي يحرسها بسحره وأن لهذا السلطان سبع بنات نائمات تحت تأثير السحر على أسرة من الذهب الخالص وفى مقابل ذلك يدفع الذهب لأهل بيت الكريتلية حتى لا يتعرض لبناته أحد أو يلحق بهن الأذى ومن المعتقدات والخرافات أيضا أنه يقع على الواجهة الخارجية للبيت المطلة علي شارع طولون ضريح ولي من أولياء الله يدعي الشيخ هارون بن الحسين والذي إشتهر ببركاته وكراماته وبجلبه الحماية والرخاء للبيت وأهله ومنع هدمه بل وحمايته من الحريق حيث ربما يضعف بنيانه ويتهدد بالسقوط والإنهيار وأن يتعرض أهله للفاقة والفقر المدقع ولكن ببركات وكرامات سيدى هارون الولى الحامى للبيت يمتنع حدوث أى شيء من هذا فمهمته حراسة البيت وحمايته ولن يقبل أن يترك البيت أو أهله أبد الدهر للضياع أو يجعله فريسة لمن يريد أن يمسه بسوء .

زر الذهاب إلى الأعلى