الأدب و الأدباءالثقافة

قصة قصيرة بعنوان جنون

كتبت/الشيماء صلاح الدين

كانت تجلس على ذلك المقعد المرتفع بالقرب من الساقى،يتدلى شعرها الغجرى بحرية ليغطى ظهرها المكشوف،بين شفتيها المصبوغتين بلون أحمر قانى سيجارة مشتعلة،لاتقل إشتعالا عن جسدها الممشوق الذى يظهر جليا بكل تفاصيله،إذ يظهر ثوبها من مفاتنها أكثر مما يخفى، صدر ناهد فائر،خصر نحيل وأرداف مستديرة ممتلئة،ساقين رشيقتين ناعمتين.
أعين الرجال تتفحصها من كل إتجاه،وهى تعلم ذلك جيدا،بل تكاد تشعر بنظراتهم تنهال على جسدها كوخز الإبر أو جلد السياط،تأخذ نفسا عميقا من سيجارتها وتجول بعينيها فى وجوه الجالسين بتلك الحانة،تزفر الدخان ببطء وهى تثبت نظراتها على أحدهم فيبدو مرتبكا مرتجفا فتتحول عنه لغيره،حتى تقع عينيها عليه،شاب يجلس وحيدا شاردا ذاهلا حتى عن كأسه،لم يكن يراها وربما لم يكن على علم بوجودها فى المكان،أثار فضولها،إذ أعتادت أن يلاحقها الرجال أينما ذهبت، وأعتادت أن تثيرهم وتغريهم،ولكن هذا الشاب لم يلتفت إليها،حتى عندما أقتحمت وحدته وجلست إلى طاولته ونظرت مباشرة لعينيه وقد أكتحلت بالفتنة وتعطرت بالدلال.
لم يبادلها النظرة ،كانت عينيه مثبتتان فى الفراغ،قال فى نفاذ صبر:
-عيناك تثرثران بكثرة،وأنا أرغب فى البقاء وحيدا.
كلماته كانت صادمة بالنسبة لها ولكنها تصنعت الهدوء،أعتدلت فى جلستها وداعبت خصلات شعرها بأناملها وهى تقول:
-وأنا أرغب فى مراقبتك عن قرب والاستمتاع بالصمت المطبق معك.
ألتفت لها،ورماها بنظرة نارية وكأنها قد أرتكبت أثما عظيما،ثم سألها :
-ماذا تريدين؟
-لا أدرى على وجه التحديد ،ولكنى أجدنى منجذبة إليك.
تعجب من جرأتها وقدرتها على إقتحامه بهذه السرعة،فقال بهدوء وهو ينظر فى عينيها مباشرة:
-لا حاجة بى إليك،وإن أردت الصدق فإنك لا تحركين فى ساكنا.
شعرت أنه قال كلماته تلك متحديا إياها ومعلنا لحرب قد لا يقوى على الصمود فيها،أحبت تلك اللعبة،وأرادت أن تكملها إذ يثيرها التحدى أيما إثارة.
ثنت جذعها للأمام وهى تجمع شعرها بيدها لينسدل كله على كتفها الأيسر ويترك كتفها الأيمن عاريا،أصبح جسدها الفاتن قاب قوسين أو أدنى منه حتى خيل إليه أنه يسمع نبضها،عطرها يغزو أنفه،عينيه تتتبع حركاتها ،يبتلع لعابه ويحاول السيطرة على أنفاسه المتلاحقة،يدرك أنها قد أحكمت حصاره وأنه سيقع أسيرا لا محالة،فأعتدل فى جلسته وهو يقول:
-أنا حقا أعتذر،فأنت تمتلكين من الأنوثة مالا يمكن إنكاره أو الأستخفاف به،كنت أمازحك فقط !
-أنا لا أقبل المزاح فيما يخص أنوثتى!
قالت كلماتها تلك بكل ما أوتيت من رقة وقد أسبلت عينيها ورسمت نصف إبتسامة على شفتيها.
تبسم فى وجهها للمرة الأولى منذ بداية حديثهما،وسألها بدهشة:
-ماذا لو كنت نهرتك لأنك أحتللت طاولتى؟ماذا لو تجاهلتك تماما؟!
-للمرة الثانية على التوالى تستخف بأنوثتى،لكنى سأجيبك على أية حال،أنا يا سيدى،أعرف جيدا كيف أقرأ وجوه الرجال،وربما هو شئ تعلمته ،ببساطة يمكننى أن أعرف أن هذا الرجل أو ذاك يحمل هما ثقيلا ويتمنى أن يجد راحة بعيدا عن كل همومه التى تؤرقه.
كانت تتكلم وهى تهز كتفها العارية فى لامبالاة واضحة،أخرجت من حقيبتها علبة سجائرها وقداحتها وأشعلت سيجارة ونفثت الدخان فى الهواء عاليا،كان هو يراقب حركاتها جميعا،يدها وهى تعبث فى الحقيبة بحثا عن علبة السجائر،شفتيها وكيف ضمتا السيجارة فى قبلة،صدرها وهى تزفر ذاك الدخان،جيدها الذى بدا كقطعة من مرمر.
-وهل عرفتى أى هم أعانى وأى ألم أكابد؟!
قالها مشككا وقد أرجع ظهره للخلف ووضع ساقا فوق الأخرى،فضحكت حتى دمعت عينيها،وقالت وهى تبتلع بقايا الضحكات:
-ومن منا يخلو قلبه من هم أو وجع!
شرد بنظرته قليلا،إذ آلمته كلماتها التى قالتها بعفوية،وتأكد لديه أنها بالفعل قادرة على أن ترى الحزن القابع فى نفسه، وأن تلمس مواضع الألم فى روحه،ولكنها لاتزيد عن إمرأة قابلها منذ دقائق فى حانة فى أطراف المدينة،لا ينكر سحرها ولا أنوثتها ولا ذاك الدفء الغريب الذى يطل من عينيها ويكسو كلماتها،كيف أستطاعت أن تنظر إلى داخله فى دقائق معدودة؟!!،وتلك الأخرى التى أمضى فى صحبتها أعواما وأعوام لم تكن تشعر به حتى وإن أخبرها بمدى الألم الذى يعانيه كانت تكتفى بمواساته بكلماتها المعتادة تقولها بإحساس باهت وأحيانا بلا أحساس على الإطلاق،تحاول أن ترسم التعاطف معه على وجهها فلا تحسن فعل ذلك فتكتسى ملامحها بشفقة مقيتة ممزوجة برياء وتصنع،كانت تؤدى ماعليها وفقط،إن شكى لها فهى تحاول المواساة ،وإن كان فرحا ،تتصنع الفرح،أما هذه التى أمامه،فتكلمه بكل كيانها،تخرج كلماتها وهى تحمل أجزاءا من روحها معها،ليس لسانها فقط الذى يتحث إليه،جسدها كله ينطق،تخترقه وتحتويه بكل ما تنطق به،لا يعرف كيف يقاوم رغبته الملحة فى إحتضانها وإبقائها بين ذراعيه وكأنها حلمه الضائع أو ذكرى غالية عادت إليه من الماضى البعيد.
كانت تخبره بقصص عديدة ،تسرد القصة تلو الأخرى،تنهى الواحدة وتبدأ فى غيرها ببراعة وإتقان وكأنها راوية محترفة،كانت تعرف أنه يريدها ألا تتوقف عن الحديث،كانت تختار الطريف من الأحاديث ولا تنسى أن تضيف لكل قصة مقدارا مما يثير رغبته ويؤجج مشاعره تجاهها لتصبح الكلمات أجسادا وعيونا وشفاها،كلها تجذبه إليها بلا توقف.
يخبرها أنه يريد أن يقضى هذه الليلة معها،يعرف أن ذاك هو الجنون بعينه لكنه يريد ذلك بشدة،تنظر فى عينيه نظرة تنفذ لداخله،تقف من فورها وتجذبه من ذراعه وينطلقا خارجين.
فى الطريق،أخبرته أنها تعيش وحيدة فى منزلها الخاص وأنه لا يبعد كثيرا،وافقها ،تأبطت ذراعه وهما يقطعان الطريق الخالية من المارة،أسندت رأسها إلى ذراعه،وربتت على ساعده برقة وهى تقول:
-لا تدع الأحزان تبقى فى عقلك أو قلبك طويلا،أخرج وألقها فى الطريق،فهى إن سكنتك لا أمل لك فى الفكاك منها،صدقنى،أفعل مثلى،كلما أمتلأ قلبى حزنا،تركت قدمى تقودنى لأى مكان،وهناك،أترك أحزانى ومخاوفى وأغافلها وأهرب لبيتى إما وحدى،أو برفقة قلب هارب آخر.
كان ينظر لوجهها وهى تحدثه،تحتمى فيه كطفلة،وتتحدث بحكمة عجوز تخطت عامها المائة،وجسدها الشاب يدفئ قلبه الذى تجمد بين أضلعه وحيدا،إنها نوع من النساء لم يصادفه من قبل،أنها مزيج متوازن من الضعف والقوة والعقل والجنون.
أشارت بأصبعها نحو أحد المنازل وأخبرته أنه منزلها،ركضت لهناك وركض ورائها محاولا اللحاق بها،وما إن إجتاز حديقة المنزل حتى رأها،إمرأة عجوز على كرسيها المتحرك تمسك بيد فتاته بقوة،تجمد فى مكانه من تلك المفاجأة ،نادته العجوز بصوت مختنق بالعبرات وطلبت منه أن يقترب ،كان يخطو نحوها بصعوبة وكأنه يخوض فى بركة من الطمى،ما إن أقترب من السيدة القعيدة حتى رأى دموعا تجرى على وجنتيها،أربكته دموعها لأقصى حد،قالت له وهى تنظر فى وجهه بأسى:
-أشكرك يا بنى لأنك أعدت لى أبنتى،فأنا كما ترانى،لم أعد أقدر على رعايتها وحدى،نعم ،فهى تعانى مرضا نفسيا منذ أعوام وحالتها تسوء كل يوم عن سابقه،لا تصدق يا ولدى ما قد تكون قالته لك،فهى لن تتذكرك ،هى حتى لا تعرف عن نفسها شيئا.
ودع العجوز وهو يتمنى لأبنتها الشفاء،ما أن إجتاز بوابة المنزل حتى سخر من نفسه ومن حظه التعس،فمن أستطاعت أن تحتوى قلبه وتنفذ إلى روحه كانت إمرأة جفاها العقل!

رئيس النحرير

المشرف العام على موقع العالم الحر
زر الذهاب إلى الأعلى