الاسلاميات

السيرة النبوية فى ضوء القران والسنة ج42 بقلم الشيخ موسى الهلالى

روائع الإيمان في هذه المعركة:
لقد أسلفنا نموذجين رائعين من عمير بن الحمام وعوف بن الحارث- ابن عفراء- وقد تجلت في هذه المعركة مناظر رائعة، تبرز فيها قوة العقيدة وثبات المبدأ، ففي هذه المعركة التقى الآباء بالأبناء، والأخوة بالأخوة، خالفت بينهما المبادئ، ففصلت بينهما السيوف، والتقى المقهور بقاهره، فشفي منه غيظه.
1- روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي أحدا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنه إنما أخرج مستكرها، فقال أبو حذيفة بن عتبة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألحمنه- أو لأجمنه- بالسيف، فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطاب: «يا أبا حفص، أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف؟!» فقال عمر: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه بالسيف، فو الله لقد نافق.
فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بامن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة. فقتل يوم اليمامة شهيدا.
2- وكان النهي عن قتل أبي البختري، لأنه كان أكف القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، وكان لا يؤذيه ولا يبلغ عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض صحيفة مقاطعة بني هاشم وبني المطلب.
ولكن أبا البختري قتل على رغم هذا كله، وذلك أن المجذر بن زياد البلوي لقيه في المعركة، ومعه زميل له، يقاتلان سويا، فقال المجذر: يا أبا البختري إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك، فقال: وزميلي؟ فقال المجذر: لا والله ما نحن بتاركي زميلك، فقال: والله إذن لأموتن أنا وهو جميعا، ثم اقتتلا، فاضطر المجذر إلى قتله.

3- كان عبد الرحمن بن عوف وأمية بن خلف صديقين في الجاهلية بمكة، فلما كان يوم بدر مر به عبد الرحمن، وهو واقف مع ابنه علي بن أمية، آخذا بيده، ومع عبد الرحمن أدراع قد استلبها، وهو يحملها، فلما رآه قال: هل لك فيّ؟ فأنا خير من هذه الأدراع التي معك، ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟ – يريد أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن- فطرح عبد الرحمن الأدراع، وأخذها يمشي بها، قال عبد الرحمن: قال لي أمية بن خلف وأنا بينه وبين ابنه: من الرجل منكم المعلم بريشة النعامة في صدره؟ قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل.
قال عبد الرحمن: فو الله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي، وكان أمية هو الذي يعذب بلالا بمكة، فقال بلال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا قلت: أي بلال، أسيري قال: لا نجوت إن نجا. قلت: أتسمع يا ابن السوداء. قال: لا نجوت إن نجا. ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، قال:
فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة، وأنا أذب عنه، قال: فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، فقلت أنج بنفسك، ولا نجاء بك، فو الله ما أغني عنك شيئا. قال فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما، فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بلالا، ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري.
وفي زاد المعاد أن عبد الرحمن بن عوف قال لأمية: أبرك، فبرك، فألقى نفسه عليه، فضربوه بالسيف من تحته حتى قتلوه، وأصاب بعض السيف رجل عبد الرحمن بن عوف «1» .
4- وقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومئذ خاله العاص بن هشام بن المغيرة.
5- ونادى أبو بكر الصديق رضي الله عنه ابنه عبد الرحمن- وهو يومئذ مع المشركين- فقال: أين مالي يا خبيث؟ فقال: عبد الرحمن:
لم يبق غير شكة ويعبوب … وصارم يقتل ضلال الشيب «2»
6- ولما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ قائم على بابه يحرسه متوشحا سيفه، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له: «والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟» قال: أجل والله يا رسول الله.
__________
(1) زاد المعاد 2/ 89.
(2) الشكة: السلاح. واليعبوب: الفرس الكثير الجري.
(

كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحب إلي من استبقاء الرجال.
7- وانقطع يومئذ سيف عكاشة بن محصن الأسدي، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلا من حطب، فقال: قاتل بهذا يا عكاشة، فلما أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزه، فعاد سيفا في يده طويل القامة، شديد المتن أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله تعالى للمسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد، حتى قتل في حروب الردة وهو عنده.
8- وبعد إنتهاء المعركة مر مصعب بن عمير العبدري بأخيه أبي عزيز بن عمير، الذي خاض المعركة ضد المسلمين، مر به وأحد الأنصار يشد يده، فقال: مصعب للأنصاري: شد يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك، فقال أبو عزيز لأخيه مصعب: أهذه وصاتك بي؟ فقال مصعب: إنه- أي الأنصاري- أخي دونك.
9- ولما أمر بإلقاء جيف المشركين في القليب، وأخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه ابنه أبي حذيفة، فإذا هو كئيب قد تغير، فقال: «يا أبا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟» فقال: لا والله، يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا مصرعه، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له خيرا.

قتلى الفريقين:
انتهت المعركة بهزيمة ساحقة بالنسبة إلى المشركين، وبفتح مبين بالنسبة للمسلمين، وقد استشهد من المسلمين في هذه المعركة أربعة عشر رجلا، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.
أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة، قتل منهم سبعون وأسر سبعون، وعامتهم القادة والزعماء والصناديد.
ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى، فقال: «بئس العشيرة كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس» ، ثم أمر بهم، فسحبوا إلى قليب من قلب بدر.

وعن أبي طلحة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث. وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى، وأتبعه أصحابه حتى قام على شفة الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، يا فلان ابن فلان، يا فلان ابن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقّا؟ فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، وفي رواية ما أنتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون» «1» .

زر الذهاب إلى الأعلى