اسليدرالأدب و الأدباء

“اليمامةُ البيضاءُ”

بقلم : هاجر أبو شعيشع
“عطرُ اليمن”

اليمامةُ البيضاءُ كانت بنتَ أبيها الأثيرة
وكانت سرَّه والبئر
ربَّاها على أنَّ اليمامَ لا يُستأنس
وأنَّ الموطنَ في الغاباتِ وفي الواحات وفي الوديان
وأنَّ الأقفاصَ المُعلَّقةَ سجونٌ والطعامَ الممنوحَ سُم
البنتُ كانت روحَ أبيها المُثابرةَ ودمَه الثَّائر
وأبوها لا يُعبِّرُ عنه مظهرُه بشكلٍ كافٍ
ثوبٌ قديمٌ لكنَّه نظيف، ووجهٌ نظيفٌ لكنَّه قديم
وهي كانت تعبِّرُ عنه بشكلٍ كاف
يقولون:
رجلٌ ربَّى بنتًا أدنى مواهبِها الأُنوثةُ ما ظهرَ منها
وأعلاها الحبُّ والثَّورة لا يعزبُ منهما مثقالُ ذرة
بنتًا نفختْ في الحبِّ روحًا جديدة
فأحبَّت الصِّغارَ وخبزتْ لهم، والكبارَ وقبَّلت أياديهم
وأحبَّتْ الغاباتِ والواحاتِ والوديان
وبثَّت في الثَّورةِ روحًا جديدة
فهي الثَّائرةُ في كلِّ يوم
من أجلِ عقيدةِ اليمامِ فكرامةِ الكبارِ فخُبزِ الصِّغار
رجلٌ شاخت عظامُه فكانت بنتُه امتدادَ جهادِه

اليمامةُ البيضاءُ أحبَّت أباها الشَّيخَ فكانتْ يدَه وقدمَه
كانت بقيَّةَ بصرِه ومرآةَ بصيرتِه
وكانت قوَّةَ عظمِه الواهنِ وبقاءَ عظمتِه التي لم تهن
وكانت قوامَ عشِّه وكِفافَ قلبِه
كان يضِنُّ بها على طالبيها
يقولُ إذا عاتبه النَّاس: أدِّخرُها لمُستحقٍّها
ويقولُ لقلبِه الذي فيها: كم يُمهلُني كُفؤكِ لأحيا؟
وهي تقولُ: كنتَ أبي وأنا الآن أُمُّك، لا أتركُ هذا العشّ
كانَ يبتسمُ ويرضى منها القربَ إلى ميقات
اليمامةُ البيضاءُ جاءَ مُستحقُّها أخيرًا
رجلٌ عائدٌ من الحربِ القريبة
بضربةِ سيفٍ على صدرِه وفكرةٍ منفيَّةٍ في رأسِه وجنينِ حُبٍّ في فؤادِه
جاء يُمهرُها طَوقًا من مواقفِه ودرعًا من نوائبِ الأيَّام
البنتُ قالت لأبيها: لا أتركُ العُشَّ ولا أُخلِّفُ ساكنَه
والشَّيخُ قال: جهادُ المرأةِ في بيتِ زوجِها والعيال
والمُحاربُ قال: لكِ الحُبُّ والقلبُ والكبرياء
خضَّبَ نسوةُ الوادي الرِّيشَ بالحنَّاء
اليمامةُ طارت من عُشِّ أبيها لتُعمِّرَ عُشًّا آخر

“شُكرًا للشَّيخِ أن ادَّخرَ كلَّ هذا الجمالِ حتَّى تعتَّق” يقولُ وهو يُقبِّلُ باطنَ كفِّها
“باللهِ ما هذا الرَّجل” كانت تقولُ كلَّ صباحٍ ويخفقُ قلبِها إذ تودِّعُه
ذاك المُحاربُ كانَ رجلًا رجلًا لا تهزمُه المعاركُ ويهزمُه الحبُّ فينتصر
وتلك اليمامةُ كانت أُنثى بكلِّ ما في الكلمةِ من جمالٍ وأمومةٍ وحب
والبُغاةُ الذين أرادوا استئناسَ اليمامِ في الأقفاصِ غاظتهم ثورةُ العاشقَين
أسروا المُقاتلَ لم يعد لعشِّ حبيبتِه الجميلة
أخذوه ولم تزل الحنَّاءُ قانيةً على الرِّيشِ الجميل
بكت اليمامةُ وشدَّت رحالَ الشَّوقِ إلى الشَّيخِ الكبيرِ لتشكو همَّها
ألفتْه في العشِّ ريشًّا على هيكلٍ من عظام
قتلوه قاتلَ اللهُ اللئام
عادت إلى العشِّ الجديد، تنقبُّ عن حبيبِها بالنَّهارِ وتنوحُ على الغصنِ ليلًا
اليمامةُ البيضاءُ هزلت ولمَّا يعد المُحارب..
ظلَّت تنوحُ وتنوحُ حتَّى سمعها شاعرٌ حزينٌ فقال:
وأرَّق العيـــــنَ والظلماءُ عـاكفةٌ
ورقـاءُ قـد شفَّها إذْ شفَّني حزَنُ
فبتُّ أشكو وتشكو فوق أيكتِها
وباتَ يهفُو ارتياحًا بينـنَا الغُصنُ!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى