اهم المقالات

..بصراحه ..غراب ..اسود..كان فى جامعه ..ثم طار ..وارتقى

بقلم

الاعلامى سمير المسلمانى

غراب أسود …سألنى صديقى المتفائل الدكتور….. فأقسم لي بأنه قد رأى فى منامه غراباً أبيضاً يرقد فوق قبة الجامعة بالأمس، فضحكت مقهقهاً على غير عادتى فى الضحك حتى استلقيت على قفاي ثم قلت له ربما كنت عارياً بلا لحاف وأنت تحلم، فعادة الحالم إذا نام عارياً ورأى غراباً أبيضاً جاء حلمه بالعكس فرأى صورة الغراب الأسود على عكس صورته التى خلقها الله تعالى عليها، فأجمل مافى الأحلام أنها تقلب الحقائق حتى تريك الأسود أبيضا والأبيض أسودا، ثم طلبت منه على الفور بعد أن استيقظ من حلمه أن يتفل عن يمينه ثلاثاً وعن يساره ثلاثاً لأن من رأى غراباً أسود أو أبيض يحوم فوق الجامعة فقد رأى شيطاناً رجيماً متخفياً فى زى ملاك كريم. نظر إلي صديقي الحبيب الدكتور مسعود محدقاً فى وجهي وأغلب الظن أنه كان يراني أديباً رصيناً أمتلك ثقافة واسعة عن الأحلام وحياة الطيور والحيوانات فأقسم علي أن أحكي له عن أسرار حياة الغراب بين سائر مخلوقات الله. فقلت له لابأس سأحكي لك عن هذا الطائر العجيب الغريب الذى كان أول (بوز) للموت والتشاؤم والحزن قد ظهر على وجه الأرض منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل بسبب غيرته الشنيعة منه بعد أن تقبل الله أعمال هابيل ولم يتقبل من قابيل، فقتل قابيل هابيل فاحتار كيف يواري سوءة أخيه فى التراب فظهر الغراب فجأة فى المصيبة السوداء والنكبة الدهياء ليقوم بعمل الواجب فتطوع بالدفن فكان أول عمل من أعمال الغراب التطوع بالدفن ثم اكتسبت كل غربان الدنيا هذه الميزة السوداء عن جدهم الأول وهي القيام بمهمة الدفن فى الدنيا، ومع استمرار نسب الغربان فى الدنيا تطورت مهنة الدفن هنا لتتجاوز معناها المادي المعروف لتأخذ معنى معنوياً أعمق من الموت الظاهري، فقد يكون دفناً للأمل أو دفناً للحقائق أو دفناً للقيم أو دفناً للطيبين من الناس أو دفناً للمخدارات أو دفناً للأسرار، فالغراب بطبيعته عاشق للدفن كاره للحياة لذا تراه الناس كلها فى كل الثقافات رمزاً للدفن والتشاؤم والموت والسواد حتى قال الناس إذا رأيت غراباً يطير ويحوم فوق أحد البيوت فتوقع موت من فيه جميعاً أو بعضهم على الأقل، وإذا أصدر غاقاته المنكرة المتحشرجة تتخلع من قاع جوفه الأسود فتوقع أن يموت أحد أبناء الحى أو تحل بهم الكوارث والفواجع والفضائح والفوادح، كما أن هذا الطائر الغريب متفنن مبتكر فى الشذوذ من كل ناحية، فهو الطائر الوحيد كما سمعت الذى يجامع زوجته بعد موتها ولا أدرى أهذه حقيقة أم لا؟ وهو شاذ فى طريقة مشيه فإذا مشى حجل على غير عادة الطيور كلها فإذا سألته لماذا تحجل ياغراب البين قال لك أنا حر أحجل وأتحنجل وأعجن كمان القشدة برجلى (ألم تعلم أن الغراب يعجن اللبن برجليه فقلت متعجباً كان يبان عليه) فلا يهمنى رأى الناس، فأنا الناس وكلامى هو الحق ولا كلام غيره أفعل ما أشاء وقتما أشاء وكيفما أشاء فأنا ابن الموت وأبو الدفن وصاحب الحنجلة ورب الشذوذ وصاحب البوز. يبدو أن صديقي قد اندهش لكل هذه المعلومات فاستزادني عن سر الغراب الأسود فقلت له هل تعلم أن الغراب له ذكاء سمسار وحذر الجاسوس وخبث الديوس ونفاق الألوان، وربما ضحك عليك فى حلمك السابق فرأيته أبيضاً لأنه يمتلك قدرة كبيرة على التنكر باللونين الأسود والأبيض فى وقت واحد، فهو على عكس الطيور كلها التى تستقر على أحد اللونين فقط فإما الأبيض وإما الأسود حتى تظهر الحقيقة إلا هذا المنافق الكذاب ترى لونه ملبط فهو لبط بين الأسود والأبيض. ولايكتفى الغراب بنفاق الألوان، بل الغريب تراه إذا مشى عرج ولعله ورث العرج من مكر أصحاب العاهات يعرجون أمامك ويخبثون ويخبصون ويهرولون وراءك. كما تجري فى دمائه حب السيطرة والعكننة والرمرمة فتراه لايأكل إلا من الرمم، ولايستريح إلا فى الخرائب والزرائب والمستنقعات يعشق كل رائحة كريهة ويغرم بالدود فى الطين فإذا انتفخ بطنه بالميتة والمنخنقة والمذبوحة تراه يملأ الجو نباحاً وصراخاً كأنه يعلن موت الحياة فى الحياة، أما لونه فقد استعاره من الليل الحالك لذلك تراه يسعد فى المهالك ويتحنجل فى أحط المعارك. ويظل يرقص فى الخرائب كأنه يحن إلى نسبه القديم فى الزرائب. وقد قيل فى الأمثال العربية الأصيلة (ومن جعل الغراب له دليلاً: فبشره بالخراب وجيف الكلاب). والناس تضرب المثل بالغراب فى تلف المصالح فتقول عنه (أخرب من عش الغراب) كما تضرب به المثل فى الاستحالة فى فعل أى شىء مفيد فتقول الناس (لايحدث هذا حتى يشيب الغراب). وشكل الغراب عجيب فهو دائم النقنقة شديد الحذر ونظرته الحذرة تثير فى الناس من حوله القلق وعدم الطمأنينة، والغراب يدعى أنه صاحب نظر دقيق سديد لكنه كذاب فى هذا الادعاء لأن الناس تطلق عليه عبر كل العصور لقب الأعور. والشىء العجيب أن هناك علاقة بين الحلم الذى رآه صديقى فى النوم ووجود الغراب الأسود فى جامعات خط القناة كلها فأكبر حشد للغربان فى مصر تراه فى الاسماعيلية والسويس وبورسعيد لكن سيناء طاهرة منه طهارة الذئب من دم سيدنا يوسف، كما للغراب ولعه الشديد بالرمرمة فلو وضعت الغراب فى مكتب مكيف مثلاً تراه ينعق وينعق صارخاً حتى يخرج من حجرة التكييف إلى فضاء الديدان فتراه لا يشعر بالسعادة إلا حول معامل الكتاكيت ومطابخ المعسكرات، وتجمعات الأحزاب، ومرابط البقر، وسرادقات تأييد الانتخابات المزورة. ونفايات السمك الميت، وفوق أسلاك التليفون يتجسس على النساء وأفعالهم مع الرجال فتراه يتصنت على الأخبار داخل الأسلاك وحيداً معزولاً، كما تراه هائماً فوق قبة بعض الجامعات المنحوسة وربما كان هذا السلوك العجيب هو الذى دفع صديقى لأن يحلم به حائماً فوق الجامعة. أما الشىء الذى أتعجب له فهو كيف عاش هذا الغراب بين المصريين؟ فليس له أى نسب أو علاقة بأصلهم الفرعونى النبيل فمن المستحيل أن تجد الفراعنة القدامى قد رسموا الغراب ولو مرة واحدة على حوائط المعابد أو على شواهد التوابيت رغم كثرة الطيور التى رسموها على آثارهم مثل أبى قردان والنسور والصقور حتى البط والوز وصغار الدواجن إلا هذا الغراب الأسود اللعين لا ترى له أثراً على الإطلاق فى ديار أجدادنا الفراعنة فمن أين أتى لنا هذا الغراب الأسود الملعون!!! ربما جاء مصر متتبعاً دماء الأموات وأشلاء الضحايا من آثار المعارك الضارية لتيمورلنك وهولاكو وموسولينى وهتلر. ومن هنا يعد الغراب غريباً بين المصريين فهذا أقرب إلى الحقيقة لأن من ضمن معانى الغراب: الغربة والاغتراب والوحدة والانعزال والتكبر والعور والتجسس والرمرمة. حتى كانوا يسمون شذاذ القبائل لدى العرب القدامى أغربة العرب. أبشرك ياصديقى بأنه سوف يختفى تماماً من ديارنا فى أقرب وقت، وأنا أقسم على ذلك فسوف يختفى تماماً بعد أسبوع أو أسبوعين على الأكثر أعاهدكم على ذلك من قلبى أرجوكم صدقونى. نحن نحتاج لغناء الطيور لا لصراخ الغربان، سيختفى الغراب الأسود من سمائنا كلها ويومئذ سوف تفرح كل الطيور السامية المرفرفة وتحتفل النسور الأصيلة المحلقة بعودة اللون الأبيض للحياة.

ولسوف تبدأ الحكايه .

ومن اول السطر

زر الذهاب إلى الأعلى