أخبار عاجلةالأدب و الأدباء

علي عيسي يكتب , ليلة فى حضن ميت

ليلة في حضن ميت , قصة / علي عيسي

كان الفتى قد سهر حتَّى وقت متأخر من الليل خارج البيت في لهوٍ ومرحٍ، برئ برفقة أطفال الحي لأنهم كانوا في شوق ولهفة  إلى ليلة سمر حلوة بعد أن انتهت أخيرًا  الدراسة بالفصل الدراسي الأول في هذا العام  ورغم برودة الشتاء تناسى الأطفال رقة ثيابهم رغم هطول المطر فقد واجهت أجسادهم  برودة الطبيعة بحرارة المودة الصادقة التي لا  نفاق فيها ولا رياء والتي جمعت بين قلوبهم لطول العهد بينهم بعبث الأطفال والضحكات البريئة  التي تجلجل دائما في فضاء فسيح يتسع لبراءة الرفاق التي تضيق بها قلوب الكبار أحيانا  ممن يستكثرون علي الصغار حتى جمال أحلامهم  لكن الفتي وفي تلك الليلة نسى كل شيء.

عناء المذاكرة واجهاد الحقل ومرارة تمني قطعة حلوي رغم استحالة الحصول عليها؛ لم يكن الفتي(( عادل فؤاد )) ينسى يومًا تلك اللحظة التي حرمته الدنيا فيها من حنان الأب الذي سقط من الطابق  السابع فلقى مصرعه ليكون واحدًا من شهداء ( لقمة العيش ) في أرض يعزف فيها الفقر لحن الخلود علي أوتار قلوب الثكالى والمرضى والجياع ومن قهرهم توحش وسطوة رأس المال وأباد أحلامهم جشع سرطاني  ونهم مجنون عابد للشهوات ومقدس لمبدأ اللذة  فصارت صرخات الفقراء الذين يفقدون بالموت والمرض ذويهم  موسيقي يطرب لسماعها كل الطغاة الذين لا  يبالون لأوجاع الفقراء التي استبيحت دمائهم وبيوتهم  وأيامهم  لجني المال وبناء الدور والقصور عندما توحش المال واحتمي بالنفوذ والسلطة فلم يبق للإنسانية موطئ قدم.

وكان الفتي اليتيم قد عاد الي بيته بعد أن كاد الليل ينتصف ليفاجئ ابن العاشرة بذلك الوجه الكالح لزوج الأم (هاشم عثمان) الذي وقف للفتى بالمرصاد مانع إياه من دخول البيت رغم توسلات الأم فما كان من الفتي التي نبتت في قلبه براعم الكرامة إلَّا أن  تراجع واستجاب لرغبة زوج أمه  حفاظا علي مشاعر الأم المغلوبة علي أمرها  والتي نجحت توسلاتها فقط في تهدئة ثورة زوجها، ولكنها كانت تسعي إلى ارضاء الرجل، واحتواء وليدها في تلك الليلة القارسة البرودة، وعندما مضت عدة دقائق خرجت الأم تبحث عن ابنها وهي تتحرك علي أطراف  أصابعها  فلم تجد الفتى الذي انصرف باكيا وكرامته الجريحة تأبى عليه الاَّ أن  يمضي إلى المجهول فلم يفكر مطلقا في استجداء عطف الأقارب أو أن  يلوذ ببيت  رفيقا طالبًا حماية جدرانا أربعة  من عناء وبرودة ليلة قاسية زادها مرارة ذلك الجوع الذي يمزق أحشائه  لكنه لا يزال يقاتل كل أعدائه بشرف حيث لا يملك من سلاح إلَّا الصبر رغم خواء جيوبه حتي من قروش قليلة يشتري بها رغيف خبز من متجر بعيد كان قد مر عليه فوقف علي مقربة منه ثم طال صمته حتى تركه مودعا كوداع العاشق محبوبته عندما يبتعد بها قطار يعوي منذرا بطول غياب غادر الفتي المتجر دون ان يعلم صاحبه المختبئ في دثاره عن الفتى وجوعه الذي يمزق أحشائه  شيئا فلم يكن ذلك الساهر ليلا يبتغي بيعا أو  شراء  لكنه كان يحرس دون أن  يراه أحدا ماكينة الري الحقلي التي تروي أرضه  القريبة من ذلك المتجر الخاوي من الزبائن في تلك الساعة وظل الفتي يقاوم عنف الطبيعة حتي لاحت لعينيه تلك الشجرة الضخمة العتيقة عند مدخل المقابر التي تفصل القرية القادم منها الفتي عن قرية أخري  مجاورة وعندها فقط جلس الفتي وقد دفعته قسوة الجوع الي البحث عما يقتات به فما وجد الا بضع تمرات  قذفت بها الريح علي مقربة من نخلة قريبة فهرع اليها والتقطتها متلمسا فيها طوق نجاة من هلاك محدق. ومال إلى ترعة صفت مياهها فشرب حتى ارتوي ثم اتخذ من جذع الشجرة التي عاد اليها متكأ حتَّى هدأت ثورة البطن فعاد العقل إلي التفكير فيما ينبغي عليه فعله حتي تشرق الشمس فيكون له مع الحياة شأن آخر ولاحت لعينا الفتي المئذنة القريبة فانطلق لا يُبالي بشيء سوى الاحتماء من قسوة البرد وسيطرة الرعب علي نفس أذلها طول  الحرمان واكتوت بآلام الفراق فلا أب  يحنوا ولا أم  تحمي من هذه اللحظات التي ما وجد فيها رفيقا سوي صوت الرعد ولا مُؤنسًا إلَّا ومضات البرق واتخذ الفتي الذي استهان بوحشية الحياة من حبات المطر المنهمر رفاقا وأخلاًء، ومضي الي ذلك المجهول الذي لاح لعينيه يهبه بعض من حياة لاذت بها روحه التي كادت تقف عند مشارف الموت رعبا فلم يطق الفتي صبرا حتي يواجه الموت مواجهة فارس  ينازل  فارس بغير صليل لسيف من نسج الخيال  أو وقاية من درع أو احتماء برمح متوهم، أخيرا  اقترب الفتى بعد أن أعياه  المسير من باب المسجد الذي اتخذه المصلون من أهل  القرية المجاورة مكانا لوداع موتاهم  حين  يوارون الثري عندما يأتي المشيعون في وداع  (راحل ) إلى مثواه الأخير.

ودخل الفتى خلسة الي ساحة المسجد وقد عم الظلام لكن مصباحا يقاوم الانطفاء كان قد وهب عينا الفتي سبيلا الي مكان آمن يهبه الدفيء، وجد به الفتي فراشا ينام فيه ليلته بعد أن أنهك التعب جسده الضئيل وأعيت روحه سحائب حزن ثقال لا ريح تحركها ولا شمسا تجبرها على ان تنهمر ممطرة فتصفوا بعدها سماء أيامه.

أخيرا أسلم الفتى جسده المنهك بعد طول عناء الي نوم عميق   ولم يكن يعلم بعدها ما ينتظره كان كغريق فقد القدرة على مقاومة الامواج تدريجيا حتى أسلم الجسد والعقل إلى الموت، وكان صوت أبيه قد أعاد البهجة إلى وجهه عندما وجد نفسه في حضن الأب وقد أشرق وجه الأب الغائب عن الدنيا بابتسامة حانية زادها حنانا نظرة عميقة من عينيه السوداوين إلى عيون الفتي الذي سال أبيه وقد تناسى كل شيء   حين همس الفتى في أدب واضح وانكسارا لا تنكره العيون ….

أريد طعاما يا أبي

فقال الأب:

كل ما تتمني مجاب يا ولدي

سَلْ تُعطي

فلن أحرمك من شيء أبدا

فقال الفتى:

لقد اشتقت إلى حضنك كثيرا يا أبي

فقال أبيه في حنان بالغ

ابق معي إن شئت فلن أضيق ببقائك أبدا ولو كان عشرات الأعوام.

فابتسم الفتي وعلت ضحكاته مدوية ثم أحاط عنق أبيه بكفيه الصغيرين وقبل جبينه قبل أن يخلد الي النوم فما أوقظه شيء حتى صاح المؤذن

الله أكبر الله أكبر

فهبَّ الفتى من نومه مذعورا  ليثير بداخل المسجد هلعًا ورعبًا غير مسبوق فلا يتوقع أحدا  أن ينهض فتى عابس الوجه من تحت ملاءة سوداء تغطي بها أجساد  الموتى كانت قد ألقيت فوق (النعش ) الذي تركه المشيعون قبل ساعات عند منبر المسجد ولم يطوي أحدهم  تلك الملاءة التي اتخذها الفتي غطاء يتقي به البرد في تلك الليلة التي ما أن رأى المصلون  فيها هذا الفتي ينهض من النعش منتصبا علي قدميه وهو يتثاءب وأصابعه تعبث بخصلات شعره حتَّى لاذ أغلبهم  بالفرار ناسيًا حتي نعله الذي يرتديه ليعدوا إلي خارج المسجد حافي القدمين مرتبك الخطي  ومضت دقائق كانت فيها حلوق البعض قد جفت وتصبب الجبين عرقًا حتي تبيَّن إمام المسجد الأمر وعاد المصلون إلى صلاتهم.

 

 

 

 

احمد فتحي رزق

المشرف العام
زر الذهاب إلى الأعلى