اسليدرالأدب و الأدباء

فلذة كبد

الجزائر : ڨطافي نصيرة 

أتراها مراهم النسيان والصفح تعيد لتجاعيد الذاكرة جمالها؟ الّذي تغنّت به يوما حسناوات ما كان ذنبهن إلا أنهن أنجبن أبناء اتخذوا من العقوق والجحود أخدانا تواعدوا معهم سرا على خيانة عهد كتبت الجنة تحت أقدامه.

سؤال كسر ذراع صبرينة، رغم خفة حقيبتها اليدوية وهي تحمله بين مفكرة أسئلتها، لنزلاء دار المسنين، في مهمتها لإنجاز تحقيقها الصحفي، الذي تحاشت كثيرا الاصطدام بوقوعه بين يديها، لإدراكها أن ما سمعته من وقائع الحدث وما قرأته كاف لهز مشاعرها المضطربة جدّا من أهوال ما تتمايل به متتالية هذا الواقع الأليم المتقهقر. ها هي آخر الأوراق الإدارية الخاصة باستكمال التحقيق تقطر بخجل التوقيع والمصادقة، ودون انتظار جفافها سارعت لإخفائها داخل دفتر يومياتها، لكنّها تخشى من فضيحة عاره التي سلطت على أمة جاء دستورها مشدّدا على (وارحمهما كما ربياني صغيرا).

بارتباك ساخر من قدر الأيام نظرت إلى هاتفها، لتدرك أن زمن الاعتراف بالجميل لقي مصرعه ذات اصطدام مع قسوة الأنانية والتفكير في الذات، وانتصار نزوة التجرد من ثياب المشاعر، سكبت آخر قطرات ذهولها بين استعجال عقارب الساعة لسير خطواتها، نحو شاهد مقصلة الرحمة، لتوقف أول سيارة أجرة تحلق أمامها، وبداخلها إحساس بالمرارة يتلبس موعدا لابد من المواجهة مع تفاصيله، بشجاعة واقتدار. دار المسنين –دالي إبراهيم-هي الوجهة التي همست بها لسائق الأجرة، بعيون تقرأ بحذر ما دار في ذهنه من أفكار حيال قاصد هذا المكان، انطلق بها السائق غارقة في سكونها وارتباكها، وهو في تركيزه مع ملامح الطريق المزدحمة في مثل هذا الوقت من الصباح والكل متجه لعمله، وقضاء مصالحه. كانت الطريق أشبه بفوضى الأسواق الشعبية وهي تتخاطف ألوانا مختلفة من البشر، يتزاحمون ويتداخلون في انصياع لرغبة الأولوية، دونما تأطير منسجم لحركة التفاعل الإنساني الانسيابي، الذي يرتب الأدوار حسب الإلتزام الخلقي، فيكون المرور حينها للأجدر والأقوى فقط. بدا الطريق طويلا جدا، في ظل هذا الزحام الخانق، مما استلزم معه انفجار صوت صبرينة محدثا سؤالا طارئا قطع ردها من الصمت: ألا يمكن أن تسلك طريقا آخر؟؟؟ استدار السائق إليها ببطء، وكأنّه أصاب شيئا مما دار في حديث نفسها، لقد أوشكنا على الوصول، يبدو أنك مستعجلة جدا يا آنسة؟ تغيرت ملامحها مع انتفاضة هذا التلميح المريب، لتجيب باندفاع دفاعي سريع: سأقوم بإجراء تحقيق صحفي مع نزلاء الدار وعلي استكماله اليوم، نقطة أرادت الوصول إليها من البداية، لتنهي بها حالة الشك التي توسمتها في مخيلة السائق حول بعد دواخلها عن التصرف بقسوة وهمجية. لحظات منقبضة المسارات مرت على تلافيف مخيخها المشتت وهي تدور بأفكارها في أفق الشك واليقين، أوقفتها منه حركو التوقف المفاجئ للسيارة، رفعت بصرها مدركة أخيرا أنها أمام الدار، وبكثير من الوجل دفعت الأجرة دون النظر لملامح السائق، ونزلت مسرعة تلتقط أنفاسها بصعوبة واضطراب لم تجد له تبريرا، إلا في منطق الوجدانيات وتوغلاتها العميقة. هي المرة الأولى التي تزور فيها الدار، لذا وجدت نفسها تائهة في العثور على مكتب المدير، تتبعت خطواتها العبثية صعودا حين لاحت لها في نهاية الممر لافتة ما إن اقتربت منها حتى أشارت لها بأنها نجحت في العثور على غايتها، دون الاستعانة بأحد، طرقت الباب بهدوئها المثبت على مقاس أناقتها الوقورة، سمعت جواب الدخول دون تأخير فبادرت لفتحه بثقة، في محاولة منها لإبعاد التوتر الذي بدأ يحل بأوصال أنفاسها المتقطعة.

صباح الخير، معك الآنسة صبرينة، محررة ركن أصداء المجتمع من جريدة دار الغد، جئت من أجل الحوار الصحفي مع نزلاء الدار، وهذا إذن التحقيق. انطلاقة سريعة دون مقدمات وانتظار، رمت بعبارات صبرينة أمام المدير، الذي لم يبد لها دهشة أو أدنى استغراب، ربما وهو المدرك بخبرته لحماس هائل يلف كوامن الشباب في طريقه للاستئثار برغبته في صنع ذاته وفرض كيانه. بابتسامة تحمل وقارا وحكمة رد مشيرا إليها بالجلوس: تفضلي آنسة صبرينة، أهلا وسهلا بك، كنت أنتظر وصولك لنتحدث قليلا عن بعض التفاصيل المهمة قبل مباشرة تحقيقك. إحساس بالتمهل والسكون احتل أعماقها حينها وهدأ من شعلة الهاجس بالرهبة من هذا الموعد، لتجلس باطمئنان تتمتم لنفسها أنها نجحت في تخطي عتبة خوف مفترض، من عجزها وانكسار ثقتها بقدرتها على إتمام هذا التحدي الملغم. تحدث المدير بعبارات مختص نفسي يحاول توجيه نسق تلميذه، مجنبا إياه الوقوع في خطأ فادح قد يرتكبه أثناء تعامله مع مريضه، مريض يحتاج إلى أذن تصغي، وتستنطق هالة الوجع، دون الحكم على أخطائه المتراكمة التي سببت تفاقم الألم وأدّت إلى بتر علاقته بجزء أزهر منه ذات فرح، وأينع بين جنبات نضاله، لأجل أن يكبر يوما ويسقي ولو بقطرات تربته التي صارت اليوم بورا جافة قاحلة، تحتاج الكثير من العناية. لم يكن من الصعب على صبرينة الإلمام بما سمعته من محدثها، وهي الذكية الحاذقة في التقاط المعنى من أبسط صورة، لترد بحماس أكبر من بحة صوتها العذبة: لا تقلق سيدي، سأكون عند حسن ظنكم بالتأكيد، وسأكون هنا الإنسانة والنبض المحتضن لكل بوح وجع لا القاضية أو المحاكمة، شكرا جزيلا على مجموعة نصائحك وتوجيهاتك القيمة لمسار تحقيقي، فهذا سيجعله يسير بسلاسة وتفاعل أكبر. العفو آنستي، نحن هنا أيضا في خدمتكم، لأجل التحسيس بما تعاينه هاته الفئة المغلوبة على أمرها، والسعي للقضاء على هذا السلوك المشين، الذي لا يمت لديننا وأعرافنا بأي صلة، تفضلي معي لأرافقك إلى قاعة الاستقبال حيث يمكنك البدء بإجراء حوارك. أوحى المكان لها بحميمية، يختلس من كل زاوية لحظة ألفة، ويرمم من كل تفصيل بسيط جوا دافئا، خاصة مع إشارات المدير، منيرا لها ماهية طوابقه، واصفا جزئيات تجهلها عنه، وهي سابحة باندماجها معه، تسرح بخيالها في يوميات ساكنيه فيه، وتعيش معهم أجواء تأقلمهم وسط حيثياته، حتى اللحظة التي وقفت مع مرافقها أمام قاعة واسعة مرتبة بأناقة، تتوسط حائطها شاشة تلفاز ضخمة، نصبت ربّما لتشغل بال من فيها عن العودة بأذهانهم لذكريات تشتت بين سحاب نكران جميل مؤلم جدا. هنا تنتهي مهمتي آنستي، أتركك لتركزي في عملك، أرجو لك التوفيق، وإن احتجت لأي شيء سأكون في مكتبي لمساعدتك، هو صوت المدير يستأذن بالرحيل إذن، ردت عليه صبرينة بثقة: شكرا لك سأبذل جهدي لأتمّ الأمر في أحسن الظروف، مع السلامة، أرجو لك يوما موفقا. بخطوة ثابتة اتجهت نحو الجمع المتناثر في موانئ القاعة، تتصيّد عيونها ما يطفو بداخلها، وكل ووجهته التي يبتغي، فهذه جماعة نسوة يجلسن بصمت، وهنا رجال يطالعون الصحف، وهناك آخرون يحدقون في شاشة التلفاز غير مكترثين بما يدور حولهم من مد وجزر. بمن أبدأ بنون النسوة، أم بميم الرجولة؟ سؤال مرح تدلل مشاكسا يقفز في ذهنها بجنون، ابتسمت له ملامحها الطفولية، واختارت له جوابا عشوائيا بأن تبدأ بأول من تصادفه دون محاباة لجنسه، أما كانت أو أبا. وقع بصرها القريب على مسن يقلب مجموعة أوراق بين يديه، دنت منه مصدرة صوتا متعمدا لتثير انتباهه لقدومها، رفع نظره إليها، فبادرته بالانحناء لتحيته وتقبيله: صباح الخير كيف حالك أبي؟ استغرب لهذا الوصف منها، ففهمت ظنه وتابعت: ابنتك صبرينة صحفية، جئت لإجراء تحقيق عن أجواء إقامتكم هنا، فهل لك أن تقبل ثرثرتي معك بعض الوقت؟ وأمسكت يده بحنو لتكسب معركة النفور التي قد يتخذها عادة من يهرب من نزيف حاد لا يرغب في جريان وديانه مرة أخرى، استشعر صدقا وبراءة تتدفق من بين شرايين كفيها الناعمتين وهي تبض بإحساس قوي صاخب، لم يملك لها إلا الابتسام، بإشارة الجلوس والموافقة على بدء رحلة الحديث. تعلم مسبقا أن عليها تجنب الأسئلة المباشرة والمحرجة، والمذكرة بوقائع تدوس بألمها على عوالم الخاطر والفؤاد، لذا قدمت له وردة جميلة مرفقة ببطاقة كتب عليها… كل الشكر والعرفان عاجز عن وصفكم، قرأتها له بعيون تتلألأ دمعا، ليستفيض بوحه دونما استنطاق ولا توقف… كنت عامل يومي بمؤسسة وطنية، لدي ثلاث أولاد ذكور وابنتان، ولم أدخر يوما جهدي في توفير كل احتياجاتهم، فقد ضمنت تعليمهم، ونجحوا جميعا وتحصلوا على شهادات عليا، ضمنوا بها مناصب عمل مستقرة، وتزوجوا ورزقوا بأطفال، حين توفيت والدتهم منذ سنوات بقيت عند أصغرهم، بحكم أن زوجته ماكثة بالبيت وهما الأقدر على العناية بي، كنت حينها قد حصلت على التقاعد، ولم يكن لي ملاذ غير المقهى أو جدران المنزل، أتابع نشرات الأخبار، لكن يبدو يا ابنتي أن كبري وعجزي صار عبئا على فلذة كبدي، فزوجته لم تعد تطيق خدمتي، ولا حتى وجودي، وكثرت شكواها مني لابني الذي اختار الحل المختصر لراحة باله، بإحضاري هنا والتخلص من أرق مشاجراته الدائمة مع زوجته، بسبب وجودي عندهم، ولم يعد يزورني إلا اضطرارا حين أكلمه هاتفيا عن شوقي له ولرؤية أحفادي. بأنامل ترتجف خوفا على عذوبة السطور من همجية سرد قاس وظالم، تحرك قلم صبرينة مسجلا مأساة مختصرة لم تشفع فيها كل سنوات التضحية، ليكون المقابل تذكرة وحدة بين جدران دار غريبة لمت شملا فرقته قلوب جاحدة ناكرة، متناسية أن الدنيا يوم لك ويوم عليك، وأنها تدور بحلقتها ليعود الكأس الذي جرعته لغيرك فارغا لك ذات قدر. في محطة لن تغيب عن فصوص ذاكرتها لمحت صبرينة غصّة الدموع والألم في عيون جميع الحاضرين في القاعة، وهي تتأمل صمت ملامحهم المقهورة من وقع حكاية الحاج الطاهر، لتنهال عليها القصص تلو الأخرى بفأس الفجيعة التي جردت هذا الإنسان من كلّ مكارمه وفضائله وقيمه، ليتصرف بنذالة يعافها حتى الحيوان المفترس، فما كان على قلمها إلا أن يثور على ذلك الدفتر بحمم فضائح مدوية ،

عن أم ترملت في عز شبابها، آثرت أن تطوق أبناءها بجناحها المنكسر، غير آبهة لما هد جبين طريقها من مصاعب، مصممة على بلوغهم بر الأما، لتعبر بهم سكة الحياة داخل قطارات التفاني والصبر، وحرمان الذات من كل ملذاتها فقط لتراهم يوما ينعمون بما حرمت منه بل وأفضل، فإذا بهم في ليلة الوصول يغدرون بها، في ظلام آثم يقذفون جسدها النحيل من نافذة الإهمال بلا رحمة، وآذانهم لا تنصت إلا لشياطين تآمرت على إخراجهم من جنة تحت أقدامها.
أيها القلم ألا تخجل من هذا العار؟ مناجاة صرخت بها أوراق الدفاتر وهي تتلوّث بحكايات وقصص حت الحجر يلين انصياعا لتوسلات أصحابها، بأن مطلبهم لم يكن سوى حضن واحتواء، وحياة هادئة كريمة بعد مسيرة عمر من العطاء والتضحيات، ليكون التكريم هاهنا بين جدران دار اكتظت بالذكريات واشتاقت نفوس ساكنيها للمة العيد، وسط زيارات الأحباب، وصراخ الأطفال، وصينية شاي، وألبوم ذاق بأبويه فرجح حذفهما من دائرة الألوان.
مع آخر نقطة من السطر ذبل احتمال صبرينة، فذرفت دمعا حارا صافيا، شهقت واقفة في وسط ذهول الجميع جاثية على قدميه تصرخ: عن كل أبنائكم العاقين… أتوسل أسفا وغفرانا، وأرجو سماحا وعطفا، أنا ابنتكم التي قاسمتموها اليوم جراحكم وانكسار قلوبكم، سامحوني: أمي، أبي، عفوكم أرجو، فجنة الآخرة ندخلها برضاكم، وطيب دعواتكم.
كان المشهد مؤثرا للغاية حين التف الجميع حولها يعانقونها، وهي تقبل جبينهم دون استثناء، وتدعو لهم بمباركتها: فتسمع… ربي يرضى عليك دنيا وآخرة يا ابنتي ويحفظلك والديك، ويرحم من رباك.
وقبل أن يسقط آخر ما تبقى منها من عناقيد وعيها حملت حقيبتها ودفترها المسمومة بالوقائع، مشيرة لهم بالوداع، وأمنيتها أن يعود الشارد الضال إلى رشدهم من أبنائهم، لينعموا معهم بالدفء والعطف في آخر أيامهم.
حمل ركام جسدها المرهق، من هذا اليوم الاستثنائي –خارجا بسرعة-وفي ذهنها أن تقصد محلا لشراء الهدايا، من أجل أن تقتني ذلك المقنين الزين لوالدها المقعد، فقد وعدته بأن يكون أنيسه أثناء غيابها عنه، دون أن تنسى طبعا هدية أمها (طقم الأواني المميز) الذي تزين به دوما جلسات العائلة في أوقاتها الحميمية ولمتها الجميلة التي لا تعوضها أبدا مباهج الدنيا، وكلّ زخرفها مهما كان ثمينا وغاليا.

رئيس النحرير

المشرف العام على موقع العالم الحر
زر الذهاب إلى الأعلى