أخبار عاجلةالأدب و الأدباء

الباحث الموسوعي الدكتور يسري عبد الغني يكتب عن المرأه فى حياة العظماء ( 1 )

 عزيزي القارئ المفضال : أنا لا أكتب لك هذه المداخلات عن المبدعين الذين دخلوا إلى روضة المحبين ، لا أكتب لك عنهم دراسة أكاديمية أو علمية ممنهجة ، ولا أزعم ذلك فهذا مجال له زمانه ومكانه ، إنني أكتب لك ككاتب وباحث عاش في أروقة الحياة الثقافية و

(1)

 هل أحب المتنبي ..؟ !!

كان أبو الطيب المتنبي الشاعر العباسي الطموح ، المتوفى سنة 354 هـ ، أول شاعر عربي حير الناس ، فهو ينام في سبات عميق ، بينما يسهر الناس طوال الليل يختلفون ويختصمون حول شعره ، ولما لا ؟ ! ، وهو ـ كما يقول ـ نظر الأعمى إلى أدبه ، وأسمعت كلماته من به صمم ، فالخيل والليل والبيداء تعرفه ، والسيف والرمح والقرطاس والقلم .. !! .

ثم جاء أحمد شوقي في العصر الحديث فحير الناس أيضًا ، وقد شغل هذان الشاعران الدنيا من حولهما ، ومازالا يشغلانها .. ! .

لم يختلف الناس منذ نشوء شعرنا العربي ، حتى يومنا هذا ، كما اختلفوا حول المتنبي (شاعر العربية الأكبر) ، وأحمد شوقي (أمير الشعراء في عصرنا الحديث ) ، وسيظل هذا الخلاف قائمًا ، لأن هذين الشاعرين يمثلان العبقرية الحقيقية في شعرنا العربي ، ويعترف بذلك أحبابهما ، وحسادهما على السواء .

وقد اتهم نقاد كثيرون المتنبي بأنه سرق الكثير من معاني شعر غيره ، ثم جاء من بعدهم نقاد وكتاب اتهموا (شوقي ) بأنه سرق من شعر المتنبي !! .

ولكن هؤلاء النقاد جميعًا في القديم والحديث لم ينظروا إلى معنى العبقرية الحقيقية في الإبداع الشعري ، أو في الأدب بوجه عام ، فكانوا يشرحون الأبيات الشعرية تشريحا قاتلاً و مملاً ، من أجل الوصول إلى معنى أو لفظ ، يجرحون به سمات العبقرية الحقة .

ومنذ القدم اخترع نقاد الأدب العربي بابًا شهيرًا جدًا أسموه (السرقات الأدبية) ، ضموه إلى أبوابهم الثابتة في النقد الأدبي ، والتي اهتمت بأشعر بيت قالته العرب ، وأحسن بيت قالته العرب ، والكلام المطول عن اللفظ والمعنى ، إلى غير ذلك ، ورغم تعلمنا الكثير من هذه الموضوعات والمسائل بحكم دراستنا ، فهي ـ بكل ألم ـ لا قيمة لها في موازين النقد الأدبي بمفهومه الجمالي الفني و لقد فاتهم أن الإبداع الشعري ، وحدة كاملة ، نامية متنامية ، متكاملة .

والقارئ لشعر أبي الطيب المتنبي يجد أنه لم يتحدث عن زوجته ، ولم يذكر لنا اسمًا لمحبوبته ، أو عشيقته ، وهكذا كان أحمد شوقي.

وقد عصر الباحثون شعر المتنبي عصرًا ، للبحث عن محبوبته ، أو محبوبة له ، واعتقد بعضهم أنه تيم عشقًا بـ (خولة ) أخت سيف الدولة الحمداني ، أمير الدولة الحمدانية ، المنفصلة عن الدولة العباسية ، والتي كان موقعها شمالي مدينة حلب السورية .

وقالوا : إن الشاعر الفارس / أبا فراس الحمداني ، ابن عمها كان يمقته ، ويكرهه لذلك ، ولكنهم قالوا أيضًا : إن أبا فراس كره المتنبي لأنه أوقع بينه وبين عمه سيف الدولة الحمداني ، ولذلك لم يسأل عنه عندما وقع أبو فراس في أسر الروم .

كما قالوا في نفس الوقت : إن أبا فرس تيم عشقًا بفتاة تدعى (نجلاء) ، كانت على درجة كبيرة من الجمال ، والثقة بالنفس ، وفي ( نجلاء ) هذه كتب أبو فراس قصيدته المشهورة (أراك عصي الدمع ) ، والتي شدا ببعض أبياتها الشيخ / زكريا أحمد ، ثم شدت ببعض أبياتها أيضًا سيدة الغناء العربي / أم كلثوم ، من ألحان الرائع / رياض السنباطي ، مع التأكيد على أن الذي اختار هذه الأبيات من قصيدة الحمداني لتتغنى بها كوكب الشرق ، هو الشاعر الرقيق الرومانسي / أحمد رامي ، الذي كان له الفضل في أن يعرفها على دواوين فحول الشعراء ، ويشرحها لها بشكل مبسط ، وقد زاد ذلك دون شك في ثقافة أم كلثوم الأدبية واللغوية والتاريخية ، ويقال : إن رامي كان يخصص يومًا واحدًا في الأسبوع ، ليقرأ كتب الأدب والشعر لأم كلثوم ، وكان هذا اليوم هو يوم عطلته من دار                الكتب المصرية  .

وأبو فراس ولد في مدينة الموصل العراقية من أب عربي وأم رومية ، وقد قتل أبوه وكان لم يتجاوز الثالثة من عمره فنشأ تحت رعاية ابن عمه سيف الدولة الحمداني ، فعاش في جو فسيح من الثقافة والعلم والفروسية ، وكان سيف الدولة معجبًا بمحاسن ابن عمه ويطرب لشعره ، فولاه على (منبج) ، وكانت (منبج) آنذاك حصنًا منيعًا لحلب في وجه الروم ، وحدث مرة أن خرج للصيد مع حاشيته فوقع في شباك العدو وتم أسره ، فنقلوه إلى القسطنطينية عاصمة الروم ، وتباطأ سيف الدولة في افتدائه فشق ذلك عليه ، ثم افتداه ولكن سيف الدولة لم يلبث أن مات فطمع أبو فراس في الحكم فثار وانتهت به هذه الثورة إلى القتل وهو في السادسة والثلاثين ، سنة 357 هـ ، قاتل الله السلطة ومن يبحث عنها أو يسعى إليها  .

وعندما درس الدكتور / طه حسين في كتابه : (مع المتنبي) شخصية المتنبي نفى هذا الحب ، على حين أيده آخرون وهم كُثر ، واستندوا إلى قصيدة كتبها المتنبي في رثاء (خولة) ، حيث جاءت في واحد وثلاثين بيتًا نجدها في ديوان أبي فراس ، تنضح بالحب لخولة ، وإن كنا لم نشعر بهذا الحب أو ذلك الغرام الذي يعلن أنه تيم عشقًا بها  .

كما يستدلون على هذا الحب بمحاولة اغتيال المتنبي الفاشلة في حلب ، قبل هروبه إلى مصر أيام الدولة الإخشيدية ، على أيام كافور الإخشيدي ، الذي خاف من أبي الطيب ، ولم يحقق له طموحاته ، حيث أنه كان قد وعده بإمارة مقاطعة الفيوم المصرية ، حيث قال له من حوله : لو فعلت ذلك لأخذ المتنبي حكم مصر منك !! .

لقد قصد المتنبي مصر تلبية لدعوة تلقاها من كافور الإخشيدي ، هذا الجندى الذي توفى سيده محمد بن طغج صاحب مصر ، وخلف ولدًا صغيرًا فانفرد كافور بخدمته ،  ثم استبد بالأمور ،  وكان ذا دهاء ومكر .

وعد كافور المتنبي المواعيد الخلابة وماطل وأطال المماطلة ، فشعر أبو الطيب بخداعه فعزم على الفرار ، ولكن كافورًا كان قد ضيق عليه الخناق ، أي حدد إقامته ، خوفًا من لسانه ، فهرب في عام 305 هـ ، وقد هجاه هجاءً مرًا صب فيه كل حقده ، وقصد بعدئذ العراق ثم أرجان حيث كان ابن العميد الوزير الأديب المثقف وزعيم مدرسة الكتابة البديعية ، كان ابن العميد وزيرًا لركن الدولة البويهي ، ثم قصد شيراز ليمدح عضد الدولة السلطان البويهي ، ثم غادره عائدًا لبلاده .

وفي الطريق مر بأرجان ، ثم حل في واسط ، وهم أن يبارحها إلى بغداد ، ولكن أصدقاءه حذروه من مخاطر الطريق ، ولكن كبرياءه أبت عليه أن يهتم لذلك ، فشد الرحال مع ابنه وخدمه ، وفي الطريق خرج له فاتك الأسدي وكان المتنبي قد هجا أخته ، فدارت بينهما معركة انتهت بمقتل الشاعر الطموح المتنبي عام 354 هـ ، بعد حياة صاخبة حافلة بالتطلع والخيبة المرة الخاسرة ، إلا أن حسه العروبي وتقديسه للشجاعة والبطولة ، قيم تستحق أن نقف عليها .

أعود فأقول لك : لقد ماتت (خولة) بعد رحلة المتنبي الفاشلة إلى مصر ، وعودته إلى العراق وانقطاع أسبابه مع سيف الدولة الحمداني ، عندما نفس عليه مكانته منافسوه من الشعراء والأدباء ، وكان منهم النحوي الشهير / ابن خالويه ، بالإضافة إلى بعض حاشية سيف الدولة ، فدسوا له عنده ، حتى أسخطوه عليه .

والحق يقال : إن المتنبي أحب سيف الدولة حبًا شديدًا ، وكان معجبًا به إعجابًا لا حدود له ، ونظر إليه نظرة المخلص ، نظرة القادر على توحيد العرب من المشرق إلى المغرب ، وكان هذا هو حلم المتنبي الذي ما بعده حلم ، فالوحدة العربية عنده تعني مواجهة أعداء الأمة حيث أن الفتى العربي أصبح يعيش بين الأجانب غريب الوجه واليد واللسان ، أحب فيه الشجاعة والبطولة ، والبطولة أحبها المتنبي وعشقها ، فهي مفتاح شخصيته إن صح ذلك .

إن الدارس لشعر المتنبي من أجل أن يحاول معرفة أخلاقياته ، أو معرفة رأي المتنبي في المرأة والحب ، واللذة الحسية ، سوف يطرح على نفسه سؤالين مهمين :

ـ هل كان المتنبي يحب امرأة معينة ؟ .

ـ وهل كان غزله تجربة إنسانية صادقة ؟ .

يجيب على ذلك أستاذنا المرحوم / عبد الحكيم بلبع ، في مجموعة محاضراته القيمة عن (تاريخ الأدب العباسي) ، والتي ألقاها على طلبة كلية دار العلوم / جامعة القاهرة ، في العام الجامعي : 1973 ـ 1974 ، حيث يقول : ولقد يتغزل المتنبي أحيانًا ، ولكن غزله لا يعدو أن يكون أبياتًا يصدر بها قصائده ، جريًا على التقليد الذي جرى عليه الشعراء من ابتداء قصائدهم بالغزل ، أما حياة المتنبي نفسه ، وتاريخه الشعري ، فلم يقدم لنا سندًا كبيرًا على تعلقه    بامرأة معينة .

ولئن كان بعض البحاثة قد حاول أن يثبت علاقة عاطفية بين المتنبي وخولة شقيقة سيف الدولة الحمداني ، ويفسر بهذه العلاقة فرط المودة ، والحب بين المتنبي ، وسيف الدولة ، فإن هذه المحاولة لم ترتق إلى درجة اليقين العلمي الذي يجعلنا نعد شعر الغزل عند المتنبي شعرًا يرتكن على تجربة حب حقيقية .

على كل حال فإن هذا الجهد  الذى بذل للبحث عن غرام المتنبي يدلنا على أنه كان شاعرًا بلا عشق .. !!

ويدلنا كذلك على أن أشعاره الغزلية كانت أشعارًا تقليدية ، أو وصفًا لبعض لحظات الهوى الطارئة في تجارب ، عابرة ، خاطفة ، لم تدخل قلب الشاعر .

وذلك مثل قوله :

وكان أطيب من سيفي مضاجعة

أشباه رونقة الغيد الأماليد

وشعر الغزل عند أبي الطيب قليل ، لا تحس فيه دلالات حقيقية صادقة عن العشق الحار ، أو الهوى الجارف .

وقد أحس عميد الأدب العربي الدكتور / طه حسين بهذه الحقيقة ، وهو أستاذ وناقد وأديب ، يدرك جيدًا أحاسيس الشعراء ، ويدخل في عواطفهم ، ويحلل            مشاعرهم .

كانت أذنه مثل (الجهاز الإلكتروني) الذي يلتقط ، ويحلل ، ويدقق ، ويمحص ، وهو إحدى عجائب الزمان الذي قليلاً ما يجود بها الزمان .

والدكتور / طه حسين لم يكن ناقدًا مدرسيًا ، أو بنياويًا ، أو تفكيكيًا أو شكلانيًا أو حداثيًا ، يبحث داخل الألفاظ والمعاني ، ويحصي الكلمات و الأفعال ولا مانع من حروف الجر أيضًا ، ولكنه كان فنانًا رائعًا بمعنى الكلمة ، يتسلل داخل عواطف الشعراء ، وأحاسيسهم ، وفي نفس الوقت كان يملك كل أدوات الناقد الحقيقي من المعرفة والثقافة والعلم ، أضف إلى ذلك الدراية الواعية بالتاريخ ، واللغة ، والأدب ، والعلوم الإنسانية ، والفنون الجميلة .

أقول لكم : طه حسين وجيله كان آخر من قيل فيهم : أنه يلم من كل علم بطرف ، وهذا هو تعريف الأديب المبدع البارع عند القدماء ، والمثقف المتمكن عند المحدثين وليس أتباع الحداثة .

 

 

 

 

 

 

 

 

احمد فتحي رزق

المشرف العام
زر الذهاب إلى الأعلى