أخبار عاجلةالأدب و الأدباء

الدكتور خالد جوده ودراسه ,, للناس الشقيانه ,, لأحمد على عُكه

الناس الشقيانة تطل من “شباك أم رضا” للشاعر أحمد علي ُعكه

الدكتور , خالد جوده أحمد

يعد ديوان (شباك أم رضا) والصادر بمطبوعات سلسلة “كتابة” بالهيئة العامة لقصور الثقافة، الإنجاز الشعري الأول للشاعر الشاب أحمد علي ُعكه، والذي يبشر ببداية طيبة، وخطوة متقنة علي دربه الشعري الواعد، ونشير بداية أن التعاطي مع الديوان الماثل شكلاً وموضوعاً من خلال فعل “القراءة“، باعتبار أن قراءة الإبداع وسيلة للحلم في الأفق الشعري لدي شاعرنا المهموم بقضية التوصيل وجدوى الكلمة في ظل واقع مشوه، حيث “القارئ” الذي يعيد إنتاج النص الأدبي الماثل من خلال ممارسة حقه في إنتاج الدلالة، فلدي اللمحة الأولي للكتاب نجد عنواناً مبتكراً يمنح مذاقاً شعبياً، يكشف عن الحكي والأحاديث التي تدور عبر الشبابيك في منتدي شعبي أزلي، وعن الحكمة التي تنطق بها السيدة (أم رضا) لأن بها الأمومة والتي نتحصن بها من عواصف الأيام، وجانب القراءة يسعي لكشف القيم الثقافية الحاكمة للإبداع والمنتجه فنياً في رحاب أفق شعبي حميم، فالذات الشاعرة حددت موقفها بوضوح، حيث أخذت جانب الشعب، فنجد  كثافة تسريبات الحس الشعبي وراء الكلمات، فالديوان بذلك وثيقة فنية لتأريخ الزمن الاجتماعي للمصريين، والحنين الجارف إلي هذا الزمن الخصيب، شارحاً مفرداته في الأفعال الشعبية اليومية، ونجتزئ بمثال التبويب الخامس (تايه في المولد) حيث نجد ثلاثة نصوص متصله كأنها نصاً واحداً شارحاً لطقوس المولد الشعبي، كما إن النصوص حافلة بخرائط مفردات الذاكرة اللغوية الشعبية المندثرة (ملاليم و أرواح وهباب الفرن وعيال الحته …. إلي آخره)، وإذا كانت القراءة الثقافية كما قيل (تعني الوصول إلي القيم الحاكمة التي يبثها المبدع في نصه، وصولاً إلي النمط الثقافي الذي يسود المجتمع الذي انتج هذه النصوص، لتؤسس التاريخ الحيوي للبشر)، بمعني ان النص بعطائه الجمالي يمثل (رؤية وسلوك وسياق ثقافي يمكن ان نتأمله لنصل إلي طبائع الناس الذين انتجوا هذا الأدب)، والناس (= الشخصيات في الديوان) هم الناس البسطاء الفقراء الغلابة الشقيانين القائمين علي هامش الحياة، يسعي الشاعر فنياً لجعلهم متناً، نجد عدد ثلاثة وعشرون شخصية جميعها من البيئة الشعبية والبداية بالسيده “أم رضا” صاحبة العنوان، وأصحاب حرف متنوعة بعضها منقرضة، فنجد “الاسترجي“، و”عم عبده” الغلبان بائع لمبات الجاز، و”علي العجلاتي“، وكمساري “أتوبيس 211“، وأنماط مسحوقة في مجتمعنا كالموظف شهيد الفقر والحاجة المنتج لليأس والإحباط، وقرينه أو وجهه الآخر المشبك معه في المصير سائق السيارة القاتل بالخطأ، و”هيما” اللى بيحدف أحلامه بالطوب، و”رندا” المريضة، والجارة المسنة “دبوره“، وغيرهم، وشخصيات عالم الطفوله السخي يمثلها “الطفل” الراوي الممثل للذاكرة السردية في القصائد، ويفتح لنا شباك الذكري للروح النبيلة للمجتمع الشعبي البسيط الطيب، وقرينه الآخر “الذات الشاعرة في طور الشاب العجوز” كبؤرة سرد تحيا الواقع المر في حالة اغتراب تشرب بها أنحاء الديوان ودلت عليها عناوين التبويبات الفرعية (وحدي قلب وحيد / تايه في المولد)، وشاعرنا يقتنى العين الطوافة، فهو شاعر حركى لا يتنفس شعره من برج عاجى أو منزل فلسفي، فحوار الخاص والعام (تعميم الخاص) تضافر ليقدم لنا النص الأدبي باعتباره (مرايا النفس الفردية وثقافة المجتمع) في آن واحد، فالديوان شخوصه وكلماته من لحم ودم وإحساس، فقدم السيرة الذاتية بمذاق الإبداع، وجعل اليومي مشمولاً بالبوح والشجن ومشاركة الآخرين والتفاعل معهم، فالقصيدة الإطار (شباك أم رضا) تقدم موقف تسوق حياتي يومي عادي، وفي النص المعنون (دلوقتى حاسس بالأمان) نجد حادثة يمكن يراها الناس كحدث يومي متكرر، وحديث المقاهي القديمة والجديدة، والأتوبيس رقم 211، والمترو، وعنبر المستشفي رقم 13، واستديو 31، ومستشفيات الغلابة القاطن بها ذات الألم، واستعماله مفردات معبرة عن اليومي المعيش في إنسان كوكب الحب في قصيدته الفلكية (طوابير واقفة تشترى بجنيه أحلام)، والطابور ذاته شأن يومى، يقول: (أكتر من روحه .. / القايده من حر الشمس / الفاتحه أنابيب الغاز / على وشه المتفحم)، وموقف شخصي بإقتناء (نضارة جديدة) فجرت لديه نصه بذات العنوان لينفتح به علي العام والمعنوي في آن، هذا جميعه كاشف للحس الشعبي المتجذر في وعى الشاعر اتضحت في عنوان نصه (شاعر بالناس) وفي سطور كثيره نجتزئ منها بإشارة يسيره: (أنا طير بيطير .. / فى شوارع وحوارى / وباريح على شجر التوت ..). إن الرؤية الشعرية قائمة علي أزمة اغتراب الجوهر الإنساني في الواقع المصري، فالشاعر يراوح بين عالمين، عالم البراءة والبكارة المبهجة، وعالم الشراهة والجليد وفقد الإنسان، فالدال الزمني قام برصد نقطة التحول بين صفاء الروح من وباء الخوف ووقوعهها في أسر الفقد: (لحظات وتروح .. / الطيبة .. الصدق .. / الحق .. الخير)، وفي تجربة مشاهدة صورة طفولته أسس نصه (مش شبه الصورة)، حيث تبدل الطفل الذي تاهت فرحته، وقدم ملامح حافلة من عالم الطفولة الثري وتعاطيها مع المناسبات التي تشرق بها الروح الشعبية، فشرح قاموس الإحتفاء بشهر رمضان وإشعال الفوانيس، وطقوس العيد واجراءاته من ملابس وعدية وترويح وألعاب، لكن جاءت لحظة التحول بوجود الشر الذي يسرق البراءة: (كل الحرامية / الجايين يسرقوا .. / فرحه المتخبي .. / ورا قلبه)، إن الذات الشاعرة تتشبث بعالم البراءة الذي أصبح ذكريات، لكنه يستدعي منها المعني بمجموعة قيم ثقافية للعطاء في تلك البيئة الشعبية التي تمثلها هذه الذكريات، حيث يحيا الآني بشعور الفقد والحنين: (في اللحظة دي .. / افتكرت شباك “أم رضا” .. / اللى كان في الشارع اللى ورانا .. / مفتوح علي قلوب كل العيال / كان حلمى اشب .. / واطول الشباك .. / أقف فيه وأدى العيال / الحاجات الحلوة .. / ببلاش)، إن العين الفنية اللاقطة للذات الشاعرة ألتقطت صوراً شتي لمنحة اليقين ومنتجه الإيماني لشعبنا الغلبان، بشواهد كثيفة في الديوان. قيمة ثقافية أخرى في واقع الديوان هى قيمة التوريث القائم عبر آلية الحكى والحواديت، فالشخصية الشعبية تلقن الإجيال المتتابعة منظومة قيمها عبر الحكي، كشخصية “الجده” في نص (عيل في حجرك) ونجد شخصية حاكي الحواديت في نص (لسه فاكر كل حواديته)، أما شخصية الجد فنجد سماتها منتجه في ذاكرة المروي عليه، في نص (“انطونيو كوين” .. بيقلد جدك)، إن الحكايات توازي الحلم حيث يجلب “الوله حمو” الأحلام: (في قلب البير / بيجيب حكايات .. / ….. أحلام .. / للناس الشقيانه)، والقيمة الثقافية الإطار بطولة كفاح تدبير لقمة العيش، شكلت وثيقة تقدير لعطاء الناس البسيطة التعبانة من أجل لقمة العيش، ودوال عديدة في النصوص اشارت إليها، منها دالة اداة الحرفي، والتوحد في المصائر بين المسحوقين تحت سياط لقمة العيش، إنه عالم الفقراء والبسطاء والمناكيد (الأبطال) والشاربين المرار، تشدو في النصوص، ففي نص (طول عمرك فقرى) وباستعمال تيمة البكاء المتشرب بها الديوان: (وبتبكى علي .. / ناس بتموت من الجوع .. / وعيال متشردة / الفقر بيقرص فيهم .. / وبيعلمهم .. بعلامات الموت والعجز)، ولم يدعنا الشاعر دون تفسير بواعث الإغتراب لدي ذاته الشاعرة تمثلت في غياب الفعل من خلال المفارقة الكاشفة لإنطفاء المعنوي (البصيرة) في مقابل إنارة المادي (البصر): (والشمعة اللى كانت .. / بتنور في قلوب الناس .. / حب وإخلاص / مش لاقيه حد يولعها)، والقتل بالتواصل الإنساني الزائف: (نفسى أموت .. / بس أموت .. / وسط الناس / مش ع النت .. / ولا ع الشات .. / ولا ع الياهو والفيس بوك)، وإذا جاءت الإشارة إلي اغتراب المصري بتبديل قيمه، فهناك اقتران آخر باغتراب المكان، (الناس ع القهوة ماتت / ووكالة “الغورى” .. / كمان بتموت)، إنها صلة عاطفية كاشفة لتبدلات الواقع وطمس معني المكان لا مبناه، إن اغتراب الإنسان والمكان جميعاً خص به الشاعر نصوص كاملة سهلة وجميلة وكاشفة (مش شبه الناس) و (قهوه جديدة)، واستعمل الشاعر آلة الزمان الشعرية التي تراوح بها الذات الشاعرة في زمن الحكي ذهاباً وإياباً ، إن الأزمة هي صدام الإرادة للقادم من زمن الشبع (العاطفي) بشراسة زمن الجوع، واعتمد الشاعر الاسترسال في الصورة الشعرية سواء بالتوليد منها والبناء عليها بالتنويعات المتعددة لتعميقها، في مشهدية بصرية لافتة، ونجتزئ بشيء يسير من ديوان عامر بها، ففي نص طريف معنون (الشارع مسطول) حيث قدم المشهدية البصرية الساخرة من خلال مجتمع من الأمكنة، بأنسنة الشارع وما احتواه، وشتى مفرداته: (الشارع .. / واقف مسطول .. / ورصيفه قاعد سكران .. / وعمايره بترقص على الواحدة / وبيوته ماسكه لها صاجات)، وفي شعور اغترابه يرسم تيمه البكاء في صورة مشهدية بصرية أخرى: (وألقى ماحدش .. / سائل فيا / وأبكى دموعى .. / تعمل نهر / جفونى سحابته / وسماه تبقى .. / ضى عنيا). وتبقي نافذة الديوان أو بتعبير الديوان “الشباك” المضئ، او قصديته الناجزة بالفن، تمثل حلم الباحث عن الحب في زمن الجوع (ونلون في قلوب الناس .. / بلون الفرح / وتبنى عماير الحب .. / وتزرع شجر الأمل .. / فى نفوس الفقرا)، إن إرادة الحرية سبيل الأمل في الأفق الشعري لاستكمال دائرة الرغيف (نصف رغيف مش لاقى نصه التانى)، أما المقطع الذي يمثل الملخص للحركة الشعرية الباهرة بالديوان، بغسل القلب بماء الطهر، نجعله ختاماً لتلك القراءة: (واكتب أحلى .. / قصيدة حق / وانزل زى السهم .. / علي صدر الظلم .. / انقر فيه .. / وافتح قلبه / واطلع منه الغل .. / الحقد .. الكراهية / وازرع فيه الحب .. / الخير .. الحرية).

 

احمد فتحي رزق

المشرف العام
زر الذهاب إلى الأعلى