أخبار عاجلةالأدب و الأدباء

إضاءة للأستاذ الدكتور : هانى السيسى ” رواية ” أناس وأزمان ” الروائي : صلاح ياسين

الأستاذ صلاح ياسين شيخ من شيوخ الرواية في مصر ، لكنه لم يتبوأ المكانة اللائقة به في فضاء الرواية العربية  ، إذ أنه يمتلك _ في تصورنا _ أهم ملكات الكتابة الفنية في هذا السياق ، فهو على مستوى عالٍ من الثقافة في مجالات كثيرة ، تفيض بها رواياته المختلفة ، وتشهد بجلاء على تكوينه الثقافي المتميز والذي قد يفتقر إليه كثير ممن في الساحة الروائية ، ويعرف كاتبنا أين يضع معلوماته وكيف يبث ثقافته في مواضعها الملائمة في سياق روايته ؛ مما ينفي ما قد يعتري العمل الفني من تكلف وإقحام .

وكذلك فإن أ. صلاح يمتلك لغة روائية طيعة يسيرة على المتلقي لكنها ترقى بالذوق الفني واللُغوي للقارئ وتحفظ للعمل قيمته ، وتلعب دورها المنوط بها في إثراء الثروة اللُغوية للجمهور المقبلين على قراءة الرواية ، وتقدم إليهم أسلوبا مختلف يكاد يكون فريدًا _ في رأينا _ في إطار الصياغة الفنية في عالم القص .

أما في سياق بناء الشخصية ؛ فإن كاتبنا يقبض على مُقومات القدرة على تجسيد كل شخصية بكل ما يلزمها لتصبح في ثنايا الرواية تامة الخَلْق والتكوين ، مما يُعين على إدراك طبيعة دورها وحركتها على امتداد الأحداث منذ البداية وحتى الكلمات الأخيرة . وهو يوظف بمهارة تقنيات فنية مختلفة في مواضعها المناسبة وهذا مما يدفع بالملل أو بآفة الملل بعيدا عن قارئه وذلك مثل تقنية الاسترجاع أو الـــ flashback  التي تحرك ما قد يكون راكدا على صفحة نهر روايته ، ومن ذلك أيضا توظيف العناصر الشعبية كلما عَنَّ له حاجة الحدث إلى تيمة من هذه العناصر ، إذ يُدرك الكاتب عندئذ طبيعة التكوين الثقافي للإنسان في المجتمعات على اختلافها ، والتي يُشكِل فيها العنصر الشعبي مقومًا بالغ الأهمية في حياة كل إنسان يساعده على تصور عناصر الوجود وإدراك قيمة حركة الحياة في المجتمع وإيجاد صيغة معينة تمكنه من ممارسة حياته وتحدد له شكل ما ينبغي أن تكون عليه علاقاته المختلفة بالآخرين من حوله داخل مجتمعه ، وربما خارج هذا المجتمع كذلك .

وهذا كله يدفعه إلى إيجاد موقف ما من كل ما يجري حوله أو يجعله قادرا على فلسفة حياته بصورة أو بأخرى .

وقبل أن انتقل إلى رواية ” أناس وأزمان ” أود أن أشير إلى شيء أراه ذا قيمة عُليا في شخصية أ. صلاح ياسين ومن ثم في كتاباته وهو نبله في تصوير ما يَعِنّ له من قضايا جنسية ؛ فهو يضعها في إطار أخلاقي ويقدمها في غلاف من القيم الاجتماعية الأصيلة ولعل ثقافته الدينية كانت مُعينا له في هذا .

* * *

ربما كان الإهداء عتبة من عتبات النص ، فقد أهدى الكاتب روايته إلى القاهرة القديمة التي سماها قاهرة المعز لأنه كان جزء من حركة الحياة اليومية في هذه المدينة ، فهو يصفها بالصابرة ” رغم أوصاب الجراح وإهمال الأهل وعقوق الأبناء ” . وهذه نبرة شجن دفينة تنم عن صرخة هائلة ولكنها مكتومة بين الجوانح لِما أصاب القاهرة الأم وألمَّ بها على أيدي أبنائها أولا ..!

وفي استدراك على الإهداء يجتزئ الكاتب شيئا من قصيدة ” أغنية للقاهرة ” للشاعر صلاح عبد الصبور وربما كان الحب والبكاء ورؤية المحبوب والتسامح والصوت الحبيس قد صادف هوىً في نفس المؤلف يعبر عما يُكنه صدره لأُمِه القاهرة ، ويطلق ما احتبس في داخله من أنَّات وآهات وصرخات .

إن عنوان الرواية ” أناس وأزمان ” ينُم عن زخمٍ هائل من عناصر بيئة القاهرة القديمة ، تُسهم بشكل واضح في تكوين شخصية الكاتب وصقلها .. خصوصا وقد عاش تلك الفترة التي تؤرخ لها الرواية بكل تفصيلاتها ودقائقها في أبعادها المختلفة في التاريخ والجغرافيا والثقافة والعادات والتقاليد والمعتقدات ؛ بقطع النظر عن مدى صحتها أو سلامتها وكذلك السلوك الاجتماعي والإنساني للناس في هذا المجتمع .

وأول ما نلحظه في رواية ” أناس وأزمان ” أن امتدادها الزمني أو زمنها الروائي تم تحديده من خلال عمر بطل الرواية الأول والذي تصدر اسمه فصلها الأول ” حسن الذوق رضوان ضوي 1906 – 1952 ” وكذلك فصلها الأخير حسن الذوق رضوان ضوي السبت 26 يناير 1952 الحادية عشرة صباحا ، وهذا أمر لافت للنظر إذ يتم حصر الفترة التي تؤرخ لها هذه الرواية بصورة بسيطة محددة نهايتها ليس باليوم فقط السبت وإنما بالساعة الحادية عشرة صباحا ، ونحسب أن هذه الصورة في التأريخ إنما تحسب للكاتب ولعمله على السواء ، لقد اعتمد الكاتب في روايته هذه على الشخصية في بناء أحداثها في الغالب الأعم ، إذ يحمل أحد عشر فصلا من فصولها الثمانية عشر أسماء شخصيات بعضها رئيس وبعضها غير ذلك ويقوم فصل واحد هو الفصل الثالث عشر على عنوان مكاني ” بلطيم ” وتحمل ست فصول عنوانات أحداث حيوية في مجرى أو سياق الرواية أو قضايا جوهرية تسهم بشكل أو بآخر في دفع الأحداث أو توجيه أو بلورة بعض المفاهيم أو ترسيخ بعض القيم .

لقد كانت كل شخصية عنون بها فصلا من فصول الرواية تقوم بدور البطولة في مكانها ، فالبطولة في هذا العمل ليست فردية وإنما هي جماعية ، وبهذه الجماعية استطاع أن يرسم على امتداد روايته بانوراما اجتماعية جغرافية تاريخية ، تنتقل فيها البطولة من الإنسان البسيط إلى الفتوة إلى الطبقة الأرستقراطية التي تتمثل في الباشاوات والهوانم .

ولا يمكننا في هذا الإطار أن نغفل البُعد الاقتصادي الذي يتمثل في المستوى المعيشي المتفاوت والذي يعكس الطبقية المتغلغلة في بنية المجتمع المصري في ذلك الوقت .

إن الأجواء الشعبية التي عرض لها الكاتب في الرواية أتاحت له أن يُضمِّن الأحداث بعض تيمات من الثقافة الراكدة في العقل الجمعي القاهري في زمن الرواية الذي أرخ له .

ونلحظ أن ” فكرة الموت ” تبرق كثيرا بين إِيماض المُقل في سياق البُعد الجغرافي للقاهرة القديمة ، والذي تُشكِل فيه المقابر أو المدافن مساحات ليست بالقليلة ودليل ذلك أن رضوان ضوي والد البطل الأول في هذه الرواية كان يعمل حفارا للقبور ، وبدأ ابنه حسن الذوق رضوان حياته بقراءة آيات القرآن على موتي مقابر باب النصر وهو بعد في السادسة من عمره ..!

وهنا تكمُن فكرة الجمع بين ” الموت والحياة ” ، بين السكون والحركة ، وبين يأس الذين ذهبوا أو الراقدين تحت التراب ورجاء أولئك الذين مازالوا يسعون في مناكب الأرض ويأكلون من رزقه تعالى .

ونختم هذه الإضاءة بأن الكاتب استطاع _ ربما عن غير عمد منه _ أن يستلهم لونًا من الإيقاع الموسيقي الشعري في القصيدة العربية القديمة . وهو إيقاع التصريع ، وذلك حينما أنشأ مصراع باب كان من الفصل الأول إلي الفصل الأخير ؛ فكان هذا المصراع من ميلاد الرواية أي من الفكرة في الخيال لو جاز لنا أن نقول من ” السحاب إلى التراب ” .

حيث شهدنا نهاية البطل وسمعنا صوت تلك الرصاصة التي أدَّت إلى مصرع حسن الذوق رضوان ضوي .

وعبر هذه الثنائية الروائية التي قرنت البداية بالنهاية ؛ بقطع النظر عن طبيعة هذه النهاية وتلك الثنائية الأخرى التي جمعت بين حاسة البصر في رؤية الدماء وحاسة السمع في صوت الرصاصة جاءت النهاية الصارخة .

أ. د. هاني السيسي

أغسطس 2016

احمد فتحي رزق

المشرف العام
زر الذهاب إلى الأعلى