أخبار عاجلةالأدب و الأدباء

الناقد والأديب صلاح يس يكتب عن الألوان الجميله فى قصه قصيره

… والألــوان الجميــلة

             تبدأ آخر مراحل عمله كل يوم عندما يُسدل الستار الأخير .. فبين تصفيق الجمهور لطاقم الممثلين وتحية طاقم الممثلين للجمهور يقوم بفتح أبواب الخروج  ..  وتضاء الأنوار تماماً فيتجه إلي خلف الستار .. يعيد قطع الأثاث والأدوات المختلفة والحوائط ذاتها إلي أماكنها إستعداداً للعرض التالي في اليوم التالي ..

ويمر بحجرات الممثلين والممثلات .. يساعدهم في آخر ما يقومون به .. يُحضر لهذا منشفة .. يمسح مساحيق وجه آخر .. يقفل لهذه فستانها .. يقدم للأخري حذاءها .. وسيان عنده كانوا رجالاً أو نساءاً .. عرايا أو أنصاف عرايا أو مرتدين لكامل ملابسهم .. فلا هن يتحرجن منه ولا هو ملتفت لأيهن .. فالكل يناديه والكل محتاج لمساعدته .. وهو بين الجميع .. يلبي طلبات الجميع .. يساعد هؤلاء وهؤلاء .. في صمت تام .. يسمع كل تعليقاتهم عن أداء الليلة .. يسمع مديحهم بعضهم بعضا .. إن نفاقاً أو بإخلاص .. ويميز الفرق تمام التمييز ..

فبالرغم من كونه أطرش ..  والكل يتعامل معه علي هذا الأساس إلا أنه يسمع .. خاصةً الهمس .. وإن حدث وصرخ أحدهم أو إحداهن في وجهه .. عندئذٍ فقط يصبح أطرشاً .. ويفقد القدرة علي سماع أو فهم ما يقال له وما يُطلب منه حتي يتدخل أحد الحاضرين للإيضاح بالإشارة أو .. بالهمس .. ولم يكن يعبأ .. فقط يفهم المطلوب منه فيؤديه علي الوجه الأكمل غير ساخط وأيضاً غير سعيد .. والحجرة التي تخلو .. ينظفها .. يرتبها .. يطفئ أنوارها ويتجه إلي غيرها ..

ويبدأ الممثلون في الإنصراف .. ثنائيات وثلاثيات .. وفرادي ..

          كان يحس بحيرتها .. مع من ستذهب ؟؟  من سيأخذها له الليلة .. فهي للجميع .. لا أحد بالذات ولكن للجميع .. النساء منهن يشفقن عليها حيناً ويحتقرنها أحياناً كثيرة .. رغم مالهن من كبوات يعرفها جيداً  .. والرجال يتبادلنها سراً .. يظنون ذلك .. والكل يعرف ما يعرفه الكل .. ودائماً يتمني لو تطلب منه شيئ .. أي شيئ .. ولم تكن تفعل .. بل كانت تقول لو نظر إليها وفي عينيه سؤاله .. إنها تخشاه .. تخاف منه .. فيطمئنها من تتحدث معه أو معها .. أنه لا خوف منه ولا ضرر أبداً .. فهو أبسط كثيراً مما تظن .. ويتضاحك الجميع ويتغامز الكل ويشترك كل من خلف الستار في الحوار ..  وهو فيما هو فيه .. يتحرك من هنا الي هناك ملبياً كل الطلبات منفذاً لكل الأوامر .. متمنياً لو تطلب منه ولو كوب ماء .. ولم تكن تفعل ..

          وما أن ينصرف الجميع وينتهي مما لديه حتي يفصل مفاتيح الإضاءة الداخلية ويخرج إلي الصالة حيث الأبواب مازالت مفتحة .. فيغلقها واحداً فواحد .. وينظرإلي الصفوف .. صفوف المقاعد ويفكر .. ربما الليلة ..! ويمر بينها بحلم غامض .. مفتوح العينين ولكنه غامض .. يحرص أن يحلم به كل ليلة .. وعند لوحة الكهرباء الرئيسية يفصل التيار الكهربي ويكون آخر ما يقوم به .. إيقاظ الخفير الليلي ثم ينصرف ..

لا أحد .. ولا هو نفسه يذكر متي بدأ العمل في هذا المسرح .. فقط يذكر أن أباه كان يعمل نجاراً هنا .. يُنجِّر المناظر ويُصلح الأثاث .. وعمل معه  ..  ولما أن مات أبوه .. بقي هو يعمل كل شيئ .. ولا شيئ علي وجه التحديد .. وألفه الجميع عاملاً مطيعاً وخادماً أميناً .. وكاتماً للأسرار كتوم .. ساعده أنه لا يسمع .. فلا يتكلم ..

إشترك مرات عديدة في العروض المسرحية (  كومبارس ) .. وكان يراها في نفس الأدوار التافهه .. بل إنهما إشتركا معا مرات عديدة أيضاً .. جلوسا أمام بار أو علي مائدة واحدة .. لا كلام .. نعم ولكنه تمثيل علي أي حال .. ولم يكن ليهتم بها لولا ما كان يسمعه عنها .. فهي مباحة للجميع .. صديقة للجميع .. ضائعة .. أيام التجارب المسرحية تكون أول من يحضر وتبقي تنتظر .. وينصرف الجميع ويحس بحيرتها .. يكاد يبكي من أجلها .. ثم تذهب لتكون أول من يعود ..

ويتوالي حضور الممثلين والممثلات ويعُم الضحك ويكثر الكلام .. والتغامز .. ومتأكد هو من أنها تعرف !! .. تعرف هوانها عليهم .. ومتأكد هو من أن ما يُبقيها .. أقوي من هوانها وأقوي من تغامزهم ومما تسمعه .. بل وأقوي من حيلتها .. نفس الفستان .. نفس الحذاء .. ولا شيئ آخر.. وتظهر مرة بفستان مختلف .. فيعـرف ( سماعاً ) أنها ذهبت مع واحدة من الممثلات .. صغيرةً كانت أو كبيرة .. تساعدها في أمر من أمور النساء .. ربما مغامرة .. وربما شيئ آخر .. وكانت تغيب يوماً أو يومين أو ثلاثة أيام .. ويعرف أن فلاناً .. صغيراً كان أو كبيراً كان مسافراً .. ودائماً كان يود لو تتقبل منه مساعدة  .. مرات عديدة فكر أن يقدم لها نقوداً .. أو وجبة غذاء .. كنبة تستريح عليها .. وفي كل مرة كان يخاف .. يخشي أن تظنه سيطلب ما يطلبون .. أو سيأخذ ما يأخذون ..

          كان أقرب شيئ إليه سقف حجرته .. تحت الأرض .. وما في نفسه يكبُر ويكبُر حتي يملأ عليه جوانبها بكل ما فيها من الرطوبه وبقايا الأشياء .. ويسائِل نفسه .. لماذا يدفع أكثر الناس ثمن ما لا يأخذون  ..  ولماذا يأخذ بعض الناس أكثر مما يدفعون  !!   ولم يكن يفهم .. لماذا  ؟!

          لم يسمعها مرة تذكر أسرتها  ..  ولا أحد يظن بأن لها أسرة .. مرات كثيرة سعيدة ضاحكة .. فيسعد لرؤياها سعيدة  .. ومرات كثيرة حزينة باكية .. فيملأ الضيق صدره ويتمني لو أنّ له صوتاً فيسألهاً .. وتضيق الحجرة بأحلامه فيقوم يسير في الشوارع يحلم يقابلها .. يتمني لو يقابلها .. يحملها علي كتفية .. يعطيها ما تحتاج إليه .. لايكلفها مجرد القول .. يضاحكها فتضحك .. يسعدها فتسعد .. يظلل عليها .. ويحميها ..

 ليس أشق من الإنتظار ..!!  ليس إنتظاراً .. إنه ترقب ..

فليس أشق من الإنتظار والترقب  ..  لقد مرَّت أيامٌ كثيرة ولم يرها .. كم يوماً مرت .. ؟؟ وتذكّر منتبهاً .. أنه حتي لم يسمع أحداً يذكرها !! رغم سابق إنتظامها في الحضور يوماً بعد يوم وليلة بعد ليلة .. بل وأكثر من مرة في اليوم الواحد .. أحداً لم يذكرها .. لم يسأل عنها أحد  ..  تعجُباً غامضاً ملؤ رأسه ..

          لا يذكر أنه تلصص وتنصت وترقب كما يفعل حالياً .. لم يحدث له ذلك من قبل .. وهاهو يفعله الآن .. ينتظر .. يترقب .. يتنصت عله يسمع عنها أي شيئ  ..  كان غيابَها يُقلقه .. ولم يعد لفتح الأبواب وإغلاقها نفس الطعم .. ولم يعد لطلباتهم المكرره أي طعم .. بل حتي تصفيق الجمهور وصخبه .. لم يعد كما كان .. وأحس ريح شماتةٌ تسري بين النساء وجُملاً ناقصة يتبادلنها  ..  ليس فيها إسمُها نصاً ولكنها تلك الجُمل الناقصة .. تعنيها هي ولا أحد غيرها .. الغائبة .. ولم يفهم ما ترمي إليه تلك الجمل  الناقصة ..

والرجال .. كل منهم يتحاشي النظر إلي الآخرين .. وأصبح عقله يعمل بشكل لم يعهده في نفسه من قبل .. وأكثر من مرة وقف أمام أكثر من واحد وأكثر من واحدة .. يود لو يسأل .. فيعجزه خرسه ودنو شأنه فينسحب متبرماً .. يوماً لم يُحس بعجزه وعاهته كما يحس بهما الآن  ..  سؤاله في حلقه .. يعجز عن إخراجه .. يتمني لو يصرخ به .. أين هي ؟؟

          مرات ومرات خلال العروض يدخل خلف الستار .. يفتش الحجرات ينظر هنا وينظر هناك  ..  لا أحد يحس بما في نفسه ولا أحد يعرف مافي قلبه .. ولا أحد يهتم بما يدور في عقله ويحدث نفسه .. علها تأتي غداً  ..  ويأتي غداً ويصبح اليوم ولا تأتِ .. وغداً آخر يأتي ويروح .. وغيره .. ويعجز عن التحمل فتتخبط تصرفاته  ..  ويندهش البعض ولا يعبأ البعض الآخر .. ويؤنبه مدير المسرح أكثر من مرة وعلي مشهد من الجميع .. فينفجر .. همهمات وإشارات من رأسه ويديه وعينان زائغتان وشفتان مرتعشتان .. لم يره أحد في مثل هذه الحالة من قبل .. إنها ثورة .. وينهره المدير فلا يبالي ..

وتقرأ ممثلة عجوز في عينيه سرهُ .. فتتقدم إليه تضع كفها علي ذراعه وتهمس بإسمها .. فيتحجر .. ويأتيه صوتُها من باطن الأرض مختلطاً بوجوه الرجال البشعة ووجوه النساء الكابيه .. تقول له إنها في المستشفي تبكي طفلها الذي لا تعلم من يكون أبوه ..

ويحس الأرض دخاناً .. يغوص فيها .. يختنق .. ينظر إلي لا شيئ.. ويشاهد كذب كل ما يقولون وما يفعلون  ..  فيندفع يجري .. ينثر ويبعثر ويحطم .. كل ما علي مؤائِدهم من أدوات التجميل .. والألوان الجميلة ..

          ويجري .. يعبر المدينة عدواً ..

          ويجد نفسه في غرفة كبيرة .. بيضاء  ..  وأسِّرة عديدة .. بيضاء  ..  يبحث عنها بعينيه .. يجدها .. تنظر إليه .. يتقدم إليها ولم يعد يشتهي أن تطلب منه أي شيئ .. تبكي كما لم تبكِ من قبل .. يتقدم إليها ليمسح دموعها بيدٍ وبالأخري  ..  يقدم بطاقته للمرضه

                                                                     صلاح ياسين

 

احمد فتحي رزق

المشرف العام
زر الذهاب إلى الأعلى