الأدب و الأدباء

الجزء الثالث والأخير من ” قصة سميرة “

تأليف – وحيد القرشي
بعد أطمئنان سميرة علي محمد ,ترجع هي وبنتها رحاب للبيت ,فقد كان يوم شاق وملئ بالأحداث ,وبعد ساعة متاخرة من الليل فاق محمد من تأثير العملية والبنج ,ودخل عليه الطبيب المتابع ,وسأله عن والده وعنوانه ,وعلم منه كل شئ ,وتم الاتصال والتوصل لوالد محمد ,وتم أخباره بما حدث لأبنه ,وجرئ مسرعا للمستشفي ,وكان همه أخذ أبنه لمستشفي خاص ,لانه لا يقتنع بالمستشفي الحكومي ,والتي وجدت للفقراء وعامة الشعب ,ولم يهتم بشئ غير ذلك ,وأسرع في أخراج أبنه من المبني المزدحم بالبشر من المرضي والمصابين والعاملين داخل المستشفي ,وفي الساعة السابعة صباحا,أستقيظت سميرة مسرعة ,لتحضير بعض الاكل ,لكي تأخذه معها لزيارة محمد بالمستشفي ,وللأطمئنان عليه ,وذهبت هي وأبنتها رحاب ,وعندما وصلت حجرته ,لم تجده ,فسألت الممرضة عنه .
– محمد فين يا أستاذة ,مش موجود علي سريره
-تم الأتصال بوالد محمد ,وقد حضر للمستشفي ,وقام بأخراج أبنه
– وما تعرفيش راح فين
– لا يا حاجة
فرجعت سميرة ألي دكانها ,لتمارس عملها المعتاد البيع داخل الدكان ,هي وأبنتها رحاب ,وبعد عشرة أيام ,تحسنت حالة محمد ,وسأله والده ,عن السيدة التي ذهبت به للمستشفي ,وبنتها التي تبرعت بالدم وقت أجراء العملية ,حتي يذهب أليهم ,ويعرف منهم تفاصيل ما حدث لأبنه ,ويشكرهم علي ذلك ,وقد أخبره محمد بمكانهم ,ولكن أنشغال رأفت بعمله المتواصل ,أنساه الذهاب للسيدة وبنتها ,وغاب محمد عن المدرسة لفترة طويلة ,وكل يوم تنتظره سميرة وأبنتها رحاب ,بترقب وأنتظار ,وتمر الايام وتتعرض سميرة لمرض شديد ,بسبب جهدها وتعبها المتواصل مع كبر سنها ,وتنام علي فراش المرض ,فالمرأة الصلبة ,التي لم يهزمها شئ في الحياة ,فقد أنتصرت علي كل شئ ,ولكن ما فعله أبنها معها ,أشعرها دائما بالأنكسار والحسرة والحزن طيلة وقتها ,والتي لم تظهره لأحد من البشر ,حتي بناتها ,فرغم كل ذلك ,كانت دائمة الابتسامة مع الجميع ,وفي كل أوقتها .
– باين عليه هموت يا سعاد ,يا بنتي ,خلي بالك من أختك يا سعاد
-ما تقوقليش كدة يا أمي ,ربنا يبارك في عمرك , دة شوية سخونة وهتخفي وتبقي تمام أن شاء الله
-لا يا بتي ,أنا حاسة بنفسي ,هموت قبل ما أشوف رأفت ,كان نفسي أخده في حضني قبل ما أموت
وتبكي سعاد ورحاب علي أمهم ,وقد أمتلئ بيت سميرة بالنساء من الجيران وأهالي قريتها ,وأمتلئ البيت حزنا ,وسعاد ورحاب ماذا يفعلون ,ما باليد حيلة ,فهم لا يعرفون مكان أخوهم رأفت ,وفي ساعة متأخرة من الليل ,وسعاد ورحاب يجلسون بجوار أمهم ,تستقيظ سميرة
-يا رحاب , رحاب يا بنتي
– أيوة يا أمي
– أنا عارفة أن سعاد ليها بيتها وزوجها ,وهتنشغل بيهم أكيد ,وخايفة أحسن يضيع منها الظرف دة ,خدي يا رحاب الظرف دة أمانة وحافظي عليه يا بنتي ,ولو قبلتي أخوكي رأفت في يوم من الأيام ,أديه الظرف ,وقوليله أمك سابت دة ليك أمانة ,أوعي تفرطي في كلامي يا رحاب
-ربنا يطول في عمرك ويبارك فيه يا أمي ,وتعيشي وتشوفي رأفت
وتنام سعاد ورحاب بجوار أمهم المرأة العظيمة ,والتي تستحق كل الأحترام والتقدير ,والتي أحبها الجميع ,وفي وقت الفجر تفيض روحها ألي خالقها ,يالله يا رحمن ياحنان يا منان ,لطفا بعبادك المتقين ,وتدفن سميرة في الأسكندرية ,فقد طلبت من بناتها ذلك ,وطلبت منهم الأ يتركوا الأسكندرية في يوما من الأيام ,وأن يبحثوا عن أخوهم رأفت ,فقلب الام لا يتغير أبدا ,وتمر الايام ,وقد عوفي محمد وأصبح قادرا علي الحركة ,ورجع للمدرسة ,وعندم دق جرس الفسحة ,ذهب مسرعا لرؤية جدته سميرة ,فلم يجدها ,ووجد الدكان مغلق ,وأستمر علي ذلك لفترة طويلة ,وفي أحدي الايام ذهب كالعادة ,لعل يجد جدته سميرة في دكانها ,فوجد رحاب بمفردها داخل الدكان ,فذهب أليها مسرعا ,وقلبه ينبض فرحا
– كنت فين يا طنط رحاب ,أنا قلقت عليكم ,وفين جدتي سميرة
-الحمد لله أنك خفيت يا محمد ,وجدتك سميرة تعيش أنت يا حبيبي ,ماتت يا محمد
– أمتي حصل دة
– من شهرين يا محمد
ويبكي محمد بكاءا موجعا ,علي فراق جدنه سميرة ,فقد أحبها وتعلق بها ,ولو علم أنها جدتها في الحقيقة ,ووالده فرق بينهما ,لمات من هول ذلك ,او طلب الموت من خالقه ,حتي لا يعلم ذلك ,وتمر السنين ويحصل محمد علي الشهادة الأبتدائية ,ويترك مدرسته وينتقل لمدرسة أخري أعدادية ,وبين الحين والأخر كان يزور رحاب ,فلم ينسي جدته سميرة وطنط رحاب التي أعطته دمها ,ويمر يوما وراء يوم ,وكل شئ يكبر ويتغير ,فكل شئ كبر وشاخ بعد موت سميرة ,صاحبة الأبتسامة الدائمة ,وضحكتها التي كانت تشع نورا وحبا لمن حولها ,فقد أنطفئت وأنتهت من عالم الأحياء ,وفي أحدي الأيام ,ذهب محمد كالعادة للأطمئنان علي رحاب .
– أخبارك أيه يا طنط رحاب
– بخير يا محمد ,أخبارك أيه ,وعامل أيه في المدرسة ,شد حيالك أنت في السنة الاخيرة في الثانوية
– بخير يا طنط ,الحمد لله ,بذاكر كويس ,ونفسي أكون دكتور علشان أعالج الناس الغلابة وأساعدهم
– أن شاء الله ,ربنا يوفقك يا محمد ,كنت عاوزة أقولك حاجة
– أتفضلي يا طنط
– أنا هقفل الدكان خلاص ,مش هبيع فيه تاني ,أتقدم ليه عريس وأنا وافقت ,وقريب هيكون فرحنا
– ألف مبروك يا طنط رحاب ,بس عرفيني مكانك ,علشان أزوك وأطمن عليكي
وعرف محمد مكان سكن رحاب ,وحضر فرحها ,وكان دائما علي أتصال وتواصل بها ,وكان يزورها بين الحين والاخر ,وتعرف علي زوجها ,بعد أن أخبرت رحاب زوجها بحكاية محمد وحبه لجدته سميرة ,وتمر السنين ,ويحقق محمد حلمه ويصبح طبيب
– الف مبروك يا محمد يا أبني ,بقيت دكتور قد الدنيا
-البركة فيك يا بابا وفي ماما ,ربنا ما يحرمني منكم
– عاوزه أفرح بيك يا حبيبي ,أختار وشاور ,وأحنا تحت أمرك
– لازم الزواج يا ماما
– لازم يا حبيبي ,سنة الحياة ,وعلشان نشوف ولادك ونفرح بيهم
– أنا بضحك معاكي يا ماما ,أنا ليه صديقة طبيبة ,بحبها وبتحبني ومرتبطين ببعض من تالته كلية
-مستني أيه يا حبيبي ,حدد ميعاد لمقابلة وزيارة أسرتها
– حاضر يا ماما ,أي رأيك يا بابا
– الأ تشوفه يا محمد ,دة يوم المني يا حبيبي
ويذهب محمد وأسرته ,لمقابلة والد صديقتها الدكتورة لخطبتها ,بعد تحديد ميعاد لذلك ,وتم الأتفاق علي كل شئ ,وتم تحديد ميعاد الفرح ,وذهب الطبيب محمد لمنزل رحاب ,فقد كانت اول من فكر فيهم محمد ,وكانت أول المعازيم .
-فرحي يوم الخميس القادم ,وطبعا يا طنط رحاب أنت صاحبة فرح ومش محتاجة عزومة
– الف مبروك يا دكتور ,وربنا يتمم بخير يارب
وتذهب رحاب وزوجها لحضور فرح محمد ,وعندما رأها محمد ذهب أليها مسرعا ,حتي يعرفها علي والده ووالدته ,وعندما أقتربت رحاب من والد محمد ,كانت المفاجأة المفرحة والمحزنة في وقت واحد ,فوالد محمد ,هو أخوها رأفت ,الذي تركهم منذ سنوات ,فهو لا يعرفها,فقد كانت صغيرة عندما ترك البيت ,وملامحها تغيرت كثيرا ,ولكن رحاب تعرفه جيدا ,فصورته لم تفارق صدر أمها سميرة الأ بعد موتها ,فقد كبر وأبيض شعره ,وظهرت عليه علامات الشيخوخة ,وأثناء ذلك المشهد ,يدور في فكر وعقل رحاب كل ما حدث لأمها سميرة ,من حسرة وألم وأنكسار بسبب فراق أبنها رأفت ,وكأنها تشاهد فيلما تليفزيونيا ,فلم تتمألك أعصابها من صعوبة الموقف ,وصرخت فيه بأعلي صوتها
– منك لله ,تسببت في موت وقهر أمك بالسنين
– أمي مين ,بتتكلمي عن مين
– أمك سميرة ,الأ شقيت وتعبت ,وخلتك مهندس ,ولما كبرت وغنيت ,أستعرت منها ومن أخواتك ,أمك ماتت من الحسرة والحزن والتفكير فيك ,أنا رحاب أختك الصغيرة
– بلاش كلام فارغ ,ولو سمحتي وطئ صوتك ,علشان المعازيم في الفرح ,والأ هطردك بره الفيلا
– الفيلا مش مقامنا يا بشمهندس ,بس فيه أمانة ليك
– أمانة أية ,بطلي كلام فارغ لو سمحتي
– كلام فارغ ,مصمم أن كلامي كلام فارغ ,هتروح من ربنا فين ,وعلي العموم يا بشمهندس ,أمي وصتني أديك الظرف دة ,وأنت حر بعد كدة
-الكلام دة صح يا بابا ,أرجوك أتكلم
– أسكت يا محمد ,لما أشوف الظرف في أية
ويفتح رأفت الظرف ,فقد وجد ورقة مكتوب بها بعض الكلمات ,ويقرء رأفت ما بداخل الورقة ,أستعرت مني يا رأفت ,أستعرت من أمك يا أبني ,الفقر مش عيب يا حبيبي والأ عار ,العيب أنك تسيب أمك وأخواتك ,وتستعار منهم ,ومن عيشة أبوك وأمك ,فاكر يا رأفت لما كنت بحميك في الطشت فوق السطح ,وكنت بتقول نفسي أعوم في الميه زي الأ في التليفزيون ,كنت بقولك ,ربنا يديك زيهم ,بس أوعي تنسي عيشتك والطشت يا حبيبي ,ألا ينسي أصله ,ينسي نفسه ويتقل مقداره ,أنا سمحتك يا أبني ,وربنا يسامحك ,فلم يتمألك رأفت أعصابه ,ينهار ويبكي ,ولكن بعد فوات الاوان ,فسميرة الأن في قبرها ,كانت تنتظر لقاء أبنها طيلة حياتها ,ولكن القدر وأرادة الله ,كانت الحكم ,وأن يكتب لهم الفراق ليوم الحساب ,ويصرخ محمد في والده
– الكلام دة صحيح يا بابا ,جدتي سميرة ,كانت جدتي وطنط رحاب عمتي ,عملت ليه كدة يا بابا
– أسكت يا أبني ,سيبني يا أبني دلوقتي
ولكن محمد لن يتحمل صعوبة الموقف ,وبشاعة ما حدث من والده ,فيجرئ مسرعا ليبتعد عن هذا المكان ,وقد نسا أنه في يوم عرسه ,وأثناء خروجه للشارع ,تصدمه سيارة ,وأين جدتها سميرة ,لتنقذه كما فعلت معه من قبل ,ويجرئ والده ووالدته وعمته رحاب ,للحاق به ,ولكن قدر الله قد نفذ ,فمحمد يلفظ أنفاسه الاخيرة في الحياة ,ويقول لوالده كلمته الاخيرة
-المرة ألاولي لما صدمتني سيارة ,نقذتني جدتي سميرة وعمتي رحاب ,ولكن المرة ديها ,أنا هموت ,علشان أنت يا بابا ,لا تستحقني ,وربنا هيحرمك مني في يوم فرحي ,عقابا ليك ,وعلي ألا عملته مع جدتي سميرة ,زي ما حرمتني من جدتي ,ربنا هيحرمك مني ,دة عدل ربنا يا بابا
– سامحني يا أبني ,أنا كنت ضحية لفقر وحرمان
– يسامحنا ربنا جميعا يا بابا .طلبي الأخير ,أدفنوني جنب جدتي سميرة ,وياريت يا بابا ,بعد عمرك الطويل ,تدفن جنبنا ,يمكن ربنا يسامحك علي الأ عملته مع جدتي
– هتعيش يا محمد ,وهعوض عماتك عن كل شئ
– لا يا بابا ,الأ عملته ,ما فيش حاجة تقدر تعوضه ,لأن جدتي سميرة ماتت يا بابا
ثم ينطق محمد الشهادة ,وتفيض روحه ألي خالقها .
لتنتهي بذلك قصة سميرة وأبنائها

زر الذهاب إلى الأعلى