اسليدرالأدب و الأدباءمقالات واراء

الضوضاء

بقلم محمد عادل حبيب
****************************

من حسن حظنا أننا نشأنا في زمن ربما يكون هو آخر امتداد للزمن الهادئ الممتع الجميل وأتيح لنا أن نتعلم الكثير من أواخر رجال هذا الزمن ، حيث رأينا في نشأتنا ملامح الجمال الحقيقي التي كانت في مجتمعنا المصري ، في الطبيعة وفي البشر وفي القيم والسلوك وفي المواهب وفي كل مناحي الحياة .
ومع رحيل من تبقى من قامات هذا الزمان بدأت شمس الجمال التي عرفناها في المغيب رويدا رويدا ، وبدأت مساحة الصفاء تضيق يوما بعد يوم ، في الوقت الذي راحت فيه مظاهر ما يسمى بالحداثة تتسع دائرتها مع رحيل أهل الجمال .
ومن خلال هذه الصورة فإن جيلنا من وجهة نظري هو الجيل الذي شعر بالصدمة وأصيب بالحسرة ، كونه عاش فترة التغيرات الفعلية في المجتمع ، فقد نشأ في مرحلة التربية على قيم الجمال ، لكنه عندما خرج إلى النور ليتحمل المسئولية طلب منه أن بتعايش مع قيم أخرى جديدة قد تعجب البعض ولكنها تختلف كليا عن نشأته التي ترسخت جذورها في أعماقه .
ولعل من أهم ما أحاط بنا في مرحلة النشأة كان ذلك الهدوء الجميل المريح الذي يجعلك تتتأمل في كل ما حولك مستمتعا بجماله ، فلا نلتفت إلى الظلام ونحن نستمتع بضوء القمر ، ولا نأبه لنباح كلب يأتينا من بعيد ونحن نستمتع بالطرب الأصيل ، وتترامى لأسماعنا أصوات الباعة الجائلين يشدون بها لجذب الأسماع كأنها سيمفونية جميلة ، ناهيك عن صوت الأذان في المسجد بلا مكبر ، وتتهادى إلينا في جمال أصوات المنادي بطبلته الرقيقة موقظا ومنبها لقرب صلاة الفجر .
ما أجملها من أيام عشنا فيها طفولتنا وبعض شبابنا ، لكنها بقدر ما أسعدتنا بما غرست فينا من حب للهدوء والجمال ، فإن هذا الذي غرسته فينا نتألم به الآن ، فقد ملأت الضوضاء كل شبر في مجتمعنا ، تحول الطرب إلى طبل وزمر وعري وأصوات لا تمت للجمال بصلة ، وتحولت شوارعنا إلى ساحات يتبارى فيها أهل الإزعاج ، ومواصلاتنا العامة إلى أقفاص تعلو فيها أصوات النشاز المزعجة ، ويحرص أصحاب التوكتوك والموتوسيكلات على وضع مكبرات ضخمة للصوت أكثر إزعاجا من الإزعاج نفسه رافعين الصوت فيها إلى منتهاه ، حتى الباعة الجائلين أصبحت أصواتهم تصلنا نشازا من خلال مكبرات مزعجة ، وحتى ليالي الأفراح أصبحت مهرجانات للإزعاج الشديد والرقص الخارج في كثير من الأحيان .
في البلاد المتحضرة يعرفون أن هذا الإزعاج وهذه الضوضاء تلوث سمعي يؤذي الأسماع ويصيب الأعصاب بالتوتر ، ولا يستطيع أحد أن يفعل بعضا مما نفعله هنا وإلا تعرض للرفض التام والاستهجان من الآخرين وللعقوبة من المسئولين ، فهم يتقدمون بخطى ثابتة نحو الرقي الاجتماعي ، ونحن نتقدم بخطى ثابتة نحو الفوضى ,
فهل يتحرك المسئولين لبسط الهدوء مرة أخرى في الشارع المصري ؟

زر الذهاب إلى الأعلى