أخبار عاجلةالأدب و الأدباء

قراءة في كتاب “الألم في الرواية العربية” للدكتور عزوز على إسماعيل بقلم صـــــــــــلاح ياســــــــــــين الناقد الأدبي

الكتاب مطبوع بشكل جيد ، غلاف ملون معبر عن المحتوى وهو في ثلاثمائة وثمانية صفحات قطع كبير. مقسم إلى ست فصول .. لكل فصل عنوان خاص، وله دلالته   1 – ألم الجسد وجسد الألم   2 – الألم ورحلة البوح في حياة الأنثى 3 – ثورة الألم وألم الثورة     4 – الألم الوجودي والبحث عن الخلاص 5 – ألم الأرض والغربة 6 – سجن الألم وألم السجن .. ولكل هذه الفصول عناوين جانبية كاشفة وممهدة، بعد الغلاف الملون غلاف داخلي عليه دار غراب للنشر والتوزيع .. وبيانات الكتاب مقابله غلاف أخير يحمل صفة العمل كما أرادها الدكتور المؤلف ” دراسة سيسيولوجية سردية ” أي أن الدراسة تخضع لعلم اجتماع الأدب، ثم تطالعنا صفحة بيضاء محلاة ببيت من الشِعر يناسب المقام :

لا تحسبوا رقصي بينكم طربا .. فالطير يرقص مذبوحا من الألم

وإن لم يشر إلى اسم الشاعر وهو أبوالطيب المتنبي.. وجاء الإهداء على النحو الآتي: إلى أولئك الذين تألموا ولم يجدوا من يحنو عليهم، وإلى الشعوب المقهورة التي مازالت تبحث عن أوطانها” وهو إهداء دال بالفعل على العمل والذي ناسب المقال والمقام، بينما المقدمة فقد وضع الدكتور عزوز مقدمة ضافية؛ استغرقت أربع صفحات كاملة حتى الحافة ، يمكن من خلالها معرفة ما نحن مقدمون عليه قراءة ، وقد أوضح الدكتور الطريقة المتبعة في الدراسةقال:

( تتخذ هذه الدراسة المنهج الاجتماعي للتفسير؛ لأنه المنهج القادر على الغوص في أعماق النفس البشرية ومدى صراعاتها مع الواقع المرتبط بالمجتمع ) . ثم أوجز محتوى الفصو ، متبعاً الطريق الأكاديمية في الأطروحات العلمية العليا؛ تمهيداً للقراءة المستوعبة.

     وتبعا لإمكاناتي والتزاما بها اخترت للمناقشة؛ من الفصل الأول رواية “القلب البديل” للكاتب العراقي الأستاذ محمود جاسم النجار .. ومن الفصل الثاني رواية ” بياض ساخن ” للدكتورة سهير المصادفة، ولهذه الرواية طرفة.. سأوردها لدى نهاية المقال، رواية ” القلب البديل ” .. أنة وطن وآهة مكلوم .

     الكاتب .. مغترب عن وطنه منذ سنوات .. واتخذ من هولندا وطناً بديلاً . وهو يعاني من تضخم في حجم القلب ولا أمل لحالته إلا أن يجد قلباً بديلاً عن قلبه المريض . بالمستشفى ينتظر، يدعو الله وتدعو له جماعته وذووه أن ييسر الله له ما يحتاج. وعلى الجانب الآخر نراه مشغولاً بوطنه المريض أيضا ، ولا يجد سكانه من يحنو عليهم لذلك كانت الإهداء” إلى الذين تألموا ولم يجدوا من يحنو عليهم”. فقد أغرق صدام حسين الوطن في حروب لا طائل من ورائها مع جيرانه . ثمان سنوات من استهلاك موارد الوطن البشرية والمالية ، وهو قد ابتز دول الخليج البترولية في إمداده بالمال ، والمزيد من المال عنوة واقتدارا ..!

ثم ما أن يركن المتحاربان ” العراق وإيران ” إلى الاسترخاء حتى يطرق باب الشر والعدوان من جديدة بغزوة الشقيقة ؛ دولة الكويت ..! لقد ( نفق ) كل سكان حديقة الحيوان بالكويت عطشا وجوعا جراء الهمجية .. يشكونه إلى الله .

¤¤¤

     من تحليلات الدكتور عزوز لمعطيات الرواية .

     مباشرة .. أهدى الأستاذ جاسم روايته أو كتابه كما قال ص35 إلى كل من توأمه _ إن جازت هذه التوأمة _ بعد أن فارق المتبرع الحياة ؛ فهو من منحه قلبه ليعيش به حياة جديدة . ثم إلى طاقم العلاج بمستشفى إرسموس بمدينة روتردام / هولندا … فهم كانوا رحماء به من قبل العملية ومن بعدها ، ثم إلى أهله والأصدقاء وكل من آزره أبان محنته .. حالته المرضية، وهو الآن يعيش حياة طبيعية بعدما مرت فترة النقاهة ، شعر خلالها بضرورة _ تدوين _ هذه الأحداث ، تسجيلا مفصلا منذ بدايتها وحتى يومه الحالي ؛ علَّها تُقرأ من بعده فيستخلص القارئ منها العبرة والعظة .

كل هذا جميل … كما يقولون ولكن .

     تلك البكائية على وطنه ما كان لها أن تبلغ كل هذا الحد .. وتستهلك مساحة من السرد تستطيل به الرواية ؛ فقد _ بالتالي _ استطال عرض الدكتور عزوز من صفحة 32 حتى صفحة 67 ..! وكان يمكن اختزالها إلى النصف لتكون 18 صفحة فقط ، فتمنح حجم خط الطباعة فرصة النماء ولو درجة واحدة ..!

لقد بالغ الكاتب الأستاذ جاسم في البكاء على الوطن حتى ظننت أنه مدع وطنية وهو مغادره من زمن بعيد ، فحياته وأسرته مستقرة بهولندا؛ حتى أنه يترأس منتدىً أدبيا هناك .. وله أصدقاء وصديقات كذا ..!  من هناك أيضا . وكان الأجدر به أن يتذكر أو يفكر في حاله … لو لم يكن بهولندا ” الأوربية ” وكان بوطنه العزيز .!!

فهل كان سيجد من الاهتمام والرعاية والعناية ما ناله حيث هو باعترافه ..؟    كان عليه أن يقارن ويقص علينا نحن العرب عموما بكل دولنا السعيدة .. الفارق الشاسع بين هنا وهناك . تلك العناية الأوربية بوطننا لا تكون إلا لفئتين إما شخصية سيادية _ حسب التعبير المستحدث الرزيل _ أو أن يكون ثريا فاحش الثراء .   ولن أخوض في تفاصيل أخرى ، فهي أمور معروفة بالضرورة . لقد تم استدعاءه فور توفر قلب بديل ، وعلى الفور تم تجهيزه للعملية وعلى الفور تمت العملية واستفاق بقلب جديد .

¤¤¤

     في أشارة عابره حدثنا عن روح المساواة التامة بين العاملين بالمستشفى كبارا وصغارا _ من حيث المهام _ فلا فروق ولا نعرات ولا استكبار … ولا كل ما نعرفه عندنا ، وما كان يجب أن يشير إليه فيما أورده بروايته . فالإنسان في أوربا معتبر لإنسانيته وليس لمركزه أو وظيفته أو لأي حيثية أخرى .. فهو إنسان بالدرجة الأولى وعليهم أن يتعاملوا معه على هذا الأساس .

     لقد رأي الكاتب الأستاذ جاسم أن يتوحد مع الوطن .. وهو غائب عنه .!؟  بل لقد وحد نفسه مع الوطن أو هو وحد الوطن مع نفسه .. صيغة مبالغة سقيمة لأنه إذا ما كانت هذه مشاعرك ؛ فما بالك بمن يعانون هناك في الوطن العزيز ..؟

¤¤¤

     هنا مسألة على درجة من الأهمية . صحة المواطن ..

     عند صفحة 51 من الدراسة السيسيولوجيه ؛ أثار الدكتور عزوز مسألة ملتبسة بمصر وليس بكل العالم العربي ؛ فالأمانة تقتضي أن نقر اعترافا بأن دول الخليج البترولية .. يتمتع مواطنوها والمقيمون بخدمات طبية إنسانية راقية ، ولو ذكرت ما السبب ستزداد الدهشة .

( كل القائمين على مثل هذه الخدمات إما من أوربا وأمريكا أو من الطبقات المتعلمة كفاية من مصر والبلاد العربية غير البتروليه .. ومن الهند وباكستان والفلبين وتايلاند عامة قارة آسيا.

وحدِّث عن الدول غير البتروليه بما شئت ولا حرج  وحسب ما هو معلوم بالضرورة والممارسة الفعلية .

في قصيدة حافظ إبراهيم ” مصر تتحدث عن نفسها ” قال :

أي شيء في الغرب قد بهر الناس .. جمالا ولم يكن منه عندي

وأنا أقول عفوا شاعرنا الفاضل .. هناك الكثير والكثير..!

عذرا .. فقد كدت أنسي السؤال ألا وهو .. هل من الواجب أن يعرف المريض عن حالته بالتفصيل .. أم لا ..؟

     المشهور والمعروف والمعمول به لدينا .. ألا يعرف ..!

يقول الأستاذ جاسم ما يعني أن الطبيب أعلمه عن حالته الحرجة ، وأن أمامه للحياة ثلاث سنوات في حدها الأبعد . وأن عليه أن يبحث عن قلب بديل . وهو قد اعتبر هذه المصارحة قسوة ..!

في بلادنا .. هذا غير متبع ، بل والأدهى أنه بعد الكشف على مريضه ” الفحص ” .. يجلس الطبيب ليدون قائمة من الأدوية على المريض أن يتناولها ، ولا كلمة ولا شرح ولا تفهيم إلا عبارات متتالية مكرورة عن الإلتزام بمواعيد تناول الأقراص ..الخ وهذه واحدة . والثانية ببلادي لن يكون هناك من يهتم بإبلاغ المريض للحضور فورا .. فقد توفر قلب بديل لمتوفى بحادث سير حالا .  وهذا ما حدث بهولندا .. فقد تم استدعاءه فورا .. فورا .

     ويظل ينوح على الوطن ..!

أوطان لا قيمة للبشر بها على أي وجه من الوجوه . وأمور أخرى كثيرة تعبنا من الخوض بها ..!

     هذا .. وقد أجريت العملية ونحجت بحمد الله تعالى ، والآن يعيش صاحبنا حياة طبيعية شاكرا لكل من ساهم لإنجاحها .

     أورد الدكتور عزوز تحت عنوان فرعي ” النسق التضميني” يقول : ( نرى الألم في النسق التضميني عبارة عن مجموعة من القصص التي يحتاجها السرد ، وهي قصص داخل العمل ” الرواية ” وهو من معمارية الألم في الرواية ، وجميع تلك القصص تصح أن تكون قصصا قصيرة ) مستقلة . وكان عددها خمس أقصوصات .

¤¤¤

     يقول الأستاذ جاسم بعدما اطمئن على حالته : ( إنها حكاية الزمن المقلوب ، ومعاناة شعبنا وأصدقائنا وأقراننا وفي الخضم من ذلك حكايتي وما جرى لي وعشته ، فكنت أحاول لملمته واضعا حروفه الموجعة في كتاب قد يقرؤه من بعدي أبنائي وأهلي وأصدقائي وأقراني والأجيال التي تلي ) . وكل هذا صحيح لا شك.

     ضمَّن الكاتب روايته بالعديد من المتفاعلات النصية ؛ حسب تعريف الأستاذ الدكتور عزوز . ونسيَ أن يخبرنا عن قلبه الجديد .

     وهنا لنا أن نتساءل عن متشابكات ” القلب اللب الفؤاد الضمير ” وكل تلك المعنويات وقد اختص بها الله تعالي الإنسان أيا ما كانت عقيدته . فقد رُكِب له قلب رجل مسيحي العقيدة .. فهل وجد مثلا .. اختلافا ما يناقض عقيدته الإسلامية ..؟ والمتوفى لا بد أحب أو عشق عشقا ما .. هل وجد منه شيء في قلبه المستعار ..؟ وماذا عن واردات وشاردات الأفكار المتناقضة بالقلوب أحيانا ..؟ لم يحدثنا عنها واكتفى بأن القلب مضخة تعمل بقدرة الله تعالي منذ المرحلة الرحمية ببطن الأم الأم حتى لحظة الوفاة . ثم أضاف ما هو واقعي يقيني مفيد .. قال : ( هنا أود أن أقول أكيد أشعر بتغيير كبير ، بل كبير جدا ، وأن حياتي قد تغيرت بل استطيع القول بأني لم أكن أملك حياة ، وقد حصلت عليها بالفعل ، وصفني أحدهم ذات يوم ، بأني كمن ذهب إلى باحة الموت وزارها ومكث فيها بعض الوقت وترك هناك قلبه العليل جثة هامدة ، وعاد جسده المنهك بعد رحلاته الطويلة من المعاناة والألم بنبض قلب جديد لإنسان كريم رحل إلى رب كريم بعدما تبرع بقلبه خلال حياته التي أجهلها ولا أعرف شيئا عنها بالمرة ، ليحيا به جسد إنسان آخر لا يعرفه ولم يحدد ملامحه أو جنسيته ).

     ثم طفق يؤلف شعرا .. منه :

     أنا الرجل الذي يعيش بميلادين

     بعصرين مختلفين

     بغربتين قاحلتين

     صحراء وماء ، ثلج ونار     إلى آخر المطولة .

—–

تحدث القرآن العظيم كثيرا عن هذه المتشابكات ، في معرض السؤال أحيانا وأحيانا أخرى للتبكيت واللوم . وأرى أن هذه المتشابكات إنما هي ملكات .. هبة من الله لبعض عباده .. فقد تجد من الناس من لا يتمتع بأي منها ويعيش كما لو كان صخرة صماء . وإن كان الأمر الحاكم لهذه الملكات ومثيلاتها ، هو العقل ، جوهرة منحها الله لبني آدم تقود خطاهم وإلى اليقين .. إلا من أبى .

رواية ” بياض ساخن “

للدكتورة سهير المصادفة

***

                   بين .. ألم الفقد ولعبة الذاكرة .

                   هي رواية البحث عن الذات ؛ يقولها الدكتور عزوز . الذات ومكنونها تاريخها ماضيها حاضرها الاجتماعي ومستقبلها .

                   هل هي رواية اجتماعية تعالج نوع من الأمراض النفسية .. أم أنها رواية سياسية ، وأيضا تعالج العديد من أمراض الوطن .!؟

¤¤¤

     أراها سياسية بدرجة تامة الوضوح ، إذ أن كافة إسقاطاتها تقول بذلك ” سياسية ” . فالبطلة ” عبلة ” هي أمنا مصر بلا جدال .. وتعاني ما تعانيه ” ضياع .. فقدان ذاكرة تشوش حيرة هموم .. كلها مفردات نعيشها بمصر وتعيشها معنا مصر .

     تنتظر عنترة .. فيأتيها شيبوب بعد شيبوب بعد …!

     سياسية .. يقول الدكتور عزوز : ( لم تقدم سهير المصادفة حياة بطلة فحسب بل أزكت تلك الحياة بتناول التاريخ والجغرافيا والواقع السياسي والاجتماعي في مجتمع منقسم على نفسه .. تقدم لنا عبلة التاريخ  “حِب عنترة” ، وعبلة الحاضر – أمنا مصر ) .

¤¤¤

     مصر هي هاجس الدكتورة سهير المصادفة ، وهاهي كلمة السر .. مفتاح كل رواياتها .. بشخوصها وأحداثها ومواقعها كلها :

لا يعرف الشوق إلا من يكابده ** ولا الصبابة إلا من يعانيها

أنا .. لا أعرف كم من سنوات قضتها سهير المصادفة خارج مصر الأم .. تستكمل بالدراسات العليا .. لتعود بدرجة رفيعة ” دكتوراه في الفلسفة ” . كانت خلالها _ بحبل سُرِّي غير مرئّي متصل بأمها _ مصر قلبا وعقلا وهوية وهوى .. حتى العودة .

فوجئت بِما رأت .. وازدادت المفاجأة لِما سمعت ، ثم وتوالت الرزايا على عبلة .. وهي قد أحسنت إذ لم تختر اسم (خضرة) أو بهية .. كما هو متبع .. ترميزا لمصر المريضة .

     ولم تكن عبلة الوطن مُختلة العقل ولا مريضة النفس ولكنها كانت مكلومة بأحوالها حزينة بفعل الأبناء وعقوقهم . فكانت روايتها الأولي ، معبرة عن طزاجة الصدمة .. دالة على الحالة من عنوانها  ” لهو الأبالسة ” يتلاعبون بمقدرات الوطن وتهميش البشر ، يتبين ذلك في زوايا النص ، تلتها روايتها الثانية  بزاوية جديدة ورؤية أخرى ” مس إيجيبت ” تعزف على نفس الموال ، ثم ” البياض الساخن ” استمراراً لتشخيص الحالة . علهم ينتبهون .. الأبناء .

ثم كانت المصارحة .. الباهرة الكاشفة ” لعنة ميت رهينة ” فقد فاض الكيل ..! بجوانب أخرى من المأساة ، تعرضها تبينها تشير إليها .. تحذر منها. تلك الأحوال المتفاقمة انحدارا .. متصاعدة وتيرتها ..!    ويبقى .. علينا انتظار ما يستجد من شروح وإشارات منذرة حبا في الوطن وحرصا عليه .. والتي ستحمل ما يتمخض عنه مستقبل عبلة أبان انتظارها عنترة المُخْلِص المُخلِِّص ليقيلها من كبوتها ويأخذ بيدها إلى آفاق تستحقها وهي أهل لها .

¤¤¤

     وللدكتورة سهير كل الخيارات ، فالروايات الثلاث الأول يشكلون ثلاثية مثال ثلاثية نجيب محفوظ ، ثلاثية رضوى عاشور ، ولو انضمت له الرابعة ” لعنة ميت رهينة “.. فتشاكل  مماثلة لـ لورانس داريل ” رباعية الإسكندرية ” . إذ أن التيمة الأساسية لهم جميعا واحدة وإن تنوعت التقاسيم والمداخل والمخارج والمساقط .. حكيا راقيا جاذبا .. والأهم ؛ صادقا .

     فكل هذا الإبداع ؛ صرخات سياسة .. من أجل الوطن .

يقول الدكتور عزوز ما يشير إلى حالة التيه التي هي عليها بشكل تام الوضوح : ( … كانت جميلة ورائعة لأنها تركت العالم الفوضوي المنقسم على نفسه حيث لم تحتمل قسوة المجتمع والواقع المر المؤلم الذي ذاقته ، ولم ترض أو حتى ترضخ لتلك القسوة في يوم ما ..) صفحة 140

فكانت حالة الشتات الذهني .. هروب لا أرادي أخذها من نفسها ؛ فهامت بشوارع القاهرة حافية القدمين مهوشة الشعر محتقنة الوجه زائغة العينين .. ترتدي جلبابا منزليا .. بشير إلى طبقتها الغالبة .. وبيدها عصا قصيرة ، تنظر حولها لا ترى من ينظرون إليها ولا تهتم ، ولا لكلماتهم .. فهي لا تكلم أحدا .. شيء ما يوقفها فتقف تنظر حولها قد تبتسم أو تعبس ، تجلس على حافة الرصيف ، الله وحده يعلم ما بذهنها وما تفكر به . لتعود قائمة تسير خطواتها التائهة .. فهي التائهة من فرط الهموم يضيق بها صدرها .

¤¤¤

     قد يختلق المؤلف شخصيات أخرى بعينها .. لزوم الدراما وهذا لا باس به ، ولكن .. هل يجوز هذا في حالة عبلة الوطن .!؟

     لو سلمنا بوجود شوكت باشا الملواني المتهم بالجنون .. ولو سلمنا بوراثتها لأي قدر من ذلك الجنون . فقدت الرواية بؤرة هدفها ومعناها ومغزاها وكل ما وُضعت وكُتبت من أجله ..!

     عبلة ليست مجنونة .. أو ورثت جنونا عن جدها الأدنى أو الأعلى .. ولكنها مكلومة فقط .. تائهة .. تبحث عن مستقبلها بعدما أوشك حاضرها على النفاذ .

     تقرر الدكتورة سهير أن عبلة كذلك فعلا ، وذلك عندما دعوها بعضهم للجلوس معهم .. تقول في نفسها عبلة : ( يظن الجاهل الوقح أنني مجنونة ، وأنهم سيضحكون عليّ ..) . إذأ عبلة تعرف أنها مريضة وليست مجنونة وهذا حق .. وفي ضميرها أن تطلب العلاج فهي تعرف العلة ولكن .. ممن تطلبه والجميع يعانون ما تعاني بدرجات وفروق تقل أن تكثر ..!

¤¤¤

فالأدب عموما والرواية خصوصا .. تُصور تعرض تجسم أحوال المجتمع وأمراضه أو عافيته ؛ يقول الدكتور عزوز عند نهاية التحليل للرواية :

( في نهاية العمل ” الرواية ” .. نلاحظ أن الشمس بدأت تشرق ، وانقشعت الظلمات ، أو تلك الغشاوة التي ألمت بعقل عبلة ” مصرنا ” بطلة العمل ، أو ذلك البياض الساخن . ومع شروق الشمس بدأت الغيوم الرحيل لتعيش مصر حياة جديدة ، غير تلك الحياة التى عاشتها في فتراتها الماضية ، تلك الفترات التى كانت قد تعرّت فيها ) .

     جميل .. بل هو رائع من الروعة أن يتنبأ المبدع _ في أي من مجالات الإبداع _ بمستقبل وطنه .. جزء من نفسه .

     وقد تتعب الأم مع أبنائها ، ويحدث لها من جراء رعونتهم مايحدث ؛ وقد يطول أمد أوجاعها ؛ ولكنها تبقى رءوم جميلة حنانها مبذول لهم ودعواتها تخصهم . هكذا مصر تتعب ولكن لا تموت .

     وعند ختام الحديث عن الرواية ..

     شارك الدكتور عزوز الدكتورة سهير في التطلع بأمل .. ليتحقق حلم أمنا الحنون .. عبلة الوطن .

     كما أكد ما استقر بفكري لدي قراءتي للرواية ، من أن عبلة هي الوطن ترميزاً ، والوطن لا يُصيبه جنون ، قال الدكتور عزوز مؤكدا في جزئية المناص الثقافي صفحة 145 من دراسته :

( والكاتبة تُصر على التفاعلات الثقافية وتعتبر الرواية هي رواية تعليمية تثقيفية أيضا ، على الرغم مما فيها من هدف سياسي في المقام الأول ) .

     أعتبرها طرفة باسمة : يوم مناقشة رواية لعنة ميت رهينة بإتيله القاهرة قلت لها : دكتورة لقد رأيت عبلة مرتين بشوارع القاهرة . فابتسمت مشرقة قالت: إذن أنت تؤكد كلامي .

     ثم اقترحت عليها أن تهدى نسختين من ميت رهينة إلى كل من وزير السياحة وزير الآثار .. بذات المشرقة قالت : عاوز توديني السجن ..!  لم يتعجب أحد من الحاضرين أن يعلق .. فالأمر كما تقول الدكتورة فعلا .. إن قلت ما يرضيهم ..!

وأخيرا .. الأمر يستوجب الشكر الجزيل للجهد العلمي الأكاديمي من الدكتور عزوز .. ولو أن الخط الصغير صار مجهدا لي ولأمثالي من المعمرين . وعند القراءة ” نهارا فقط ” نتمنى لو كبُر الخط مللي ميتر أو أثنين ..! فالإضاءة الصناعية لا تسعفني .

احمد فتحي رزق

المشرف العام
زر الذهاب إلى الأعلى