أخبار عاجلة

الكاتب القاص والسياسى / شوقى عقل يكتب عن الصخرة

القاهرة . أ ف ق

اكتشفنا وجود صخرة كبيرة تعترض الطريق الترابي الذي نقوم بشقه وتمهيده. الصخرة التي يبدو أنها سقطت من الجبل، ترتفع كمبنى صغير! وقفت أمامها معداتنا البسيطة عاجزة. أقترح أحدهم (نفجرها يا باش مهندس!) لم يكن ذلك ممكنا، التفجير يحتاج إلى متفجرات، والحصول عليها يتطلب موافقة عشرات الأجهزة الأمنية والحكومية، بعد شهور طويلة، إذا وافقوا! بالإضافة إلى أن العمل يجري في حضن جبل المقطم في منطقة معمورة. جاءني عم ملاك غفير الموقع:
– ما تحملش هم يا باش مهندس، عندي اللي يحلها لك!
قال أحد عمال الطبلية:
-مش ح يخلصها لك إلا حجار من حدانا.
عمال الطبلية، جاء بهم مقاول الأنفار من بلده في سوهاج، شباب صغار، لا يتجاوز عمر أكبرهم الثامنة عشر! كانوا يقيمون في الموقع في خيام. أنفار تحت الطلب، صب خرسانة، أنزال أسمنت أو طوب أو حديد، حفر.. ردم.
في اليوم التالي عاد الغفير مصطحبا رجل يرتدي جلبابا:
– الريس حامد، حجار!
قال الرجل أنه سيفتت الصخرة التي ترتفع ستة أمتار ومثلهم في العرض، إلى قطع يستطيع اللودر أن يحملها، في عشرة أيام!
أخذت أتأمل مندهشا حجم الرجل الضئيل، وثقته في قدرته أن يحول الصخرة الهائلة إلى فتات، في أيام قليلة!
-أيه المعدات اللي ح تستخدمها يا حاج؟
– خليها على الله!
صمت قليلا.
– والمطلوب؟
– تلات تلاف!
قال محاسب الموقع ساخرا:
– دي الأرض اللي بنوصلها الطريق أندفع فيها خمسة بس!
ألتفت الحجار صوب الأرض الواسعة التي تصل مساحتها إلى عدة أفدنة غير مصدق:
-خمسة بس!
– والله خمسة!
دفع رجل الأعمال الكبير، زوج أبنة أحد كبار المسئولين، خمسة آلاف جنيه في تلك المساحة الكبيرة من الأرض. كانت مهمتنا أن تقوم بشق طريق لا يتجاوز طوله مائة متر، ليصل الأرض بالطريق العام.
قال الحجار بشكل قاطع:
-أخرنا ألفين!
تم الاتصال بالمالك، شرحنا له التكلفة العالية والتأخير في حالة استخدام المعدات الكبيرة، وعدم توافرها، وافق على دفع المبلغ. سألني مدير الشركة:
-تضمنه؟
-أيوه!
كنت في الخامسة والعشرين من عمري، العالم كان مايزال طيبا.
أبلغت الريس حامد أني لن أصرف له مليما قبل أن أرى شغله!
-المهم يا ريس حامد السلامة، خلي بالك من الصخور المعلقة فوق.
رد الرجل:
-الجبل طاهر يا باشمهندس، ما يأذيش إلا اللي بينجسوه! قبل ما يوقع حتة منه، بيبعت إشارة!
-إشارة؟!
-شوية تراب، نشوفهم نبعد!!

في اليوم التالي جاء ومعه عاملين ومرزبة ثقيلة ومسمار صلب كبير مصنوع من عامود كردان سيارة قديمة، وشاكوش صغير رنان لا يتجاوز وزنه النصف كيلوجرام! تطلعت مكتئبا إلى تلك “المعدات” والعمالة، ثم إلى الصخرة الكبيرة الصلبة التي قد تكون سببا في تركي العمل. لم أقل شيئا، رأيت في ابتسامة خفية في عيني الرجل أنه أدرك ما يدور في ذهني!
تسلق الرجال الصخرة بخفة مستخدمين تجاويف صغيرة في جانبها، بعد أن أخذوا معهم مكنسة. من الأسفل رأيتهم يكنسون سطحها! أخذ الحجار يسير فوق السطح النظيف، يتفحصه بإمعان. أنحني فوقه واختفي. لم أستطع الانتظار! تسلقت أنا الآخر التجاويف إلى السطح الناصع. لم يكن الصعود صعبا كما يبدو من الأسفل. حرارة شمس الصيف فوق الصخرة أشد من أسفلها. رأيته يضع أذنه على الأرض، يدق بالشاكوش الصغير على السطح الصلد، ينصت إلى صدى الدقات حابسا أنفاسه. ينتقل إلى مكان آخر ويكرر العملية. في بعض الأماكن وضع علامة بقطعة من الفحم. بعد أن أنتهى جلس متربعا على الأرض. سألني:
– إلا يا باش مهندس أنتم ما عندكوش شاي؟
صحت بملاك أن يعمل الشاي. كنت أفكر أنه لو لم يفعل شيئا خلال ثلاثة أيام، فسأقوم بطرده!
أشعلت سيجارة وعزمت عليه، أرسل أحد عماله ليأتي بالشاي. سألته عن بلده، قال باختصار (قنا). بعد أن انتهوا من الشاي صاح:
-يلا يا رجالة!
في علامة قريبة من حافة الصخرة، وضع سن المسمار الغليظ. بعد أن شكل من سيخ حديد رفيع حلقة حول المسمار بيد مجدولة؛ أمسك به من مسافة بعيدة عن ضربات المرزبة الثقيلة. صاح:
-بسم الله!
نزلت الضربة الأولى من المطرقة الثقيلة فوق العلامة، حفر المسمار لنفسه “منيم” صغير. تتالت الضربات. قبل كل ضربة يرسل الحاج حامد أشارته (يا قوي .. يا مهون.. يا رب.. تساهليك … بالك.. معاك.. مدد يا سيدي.. الله.. الله … الله)!
تتابعت الضربات، يتناوب العاملان حمل المرزبة والدق فوق رأس المسمار الذي ينزل ببطء في حفرته الصغيرة. العاملان لا يستخدمان قوة كبيرة في الدق، يرفعان المطرقة الثقيلة ثم يتركاها تهوى تحت ثقلها! بعد قليل نقل الريس المسمار إلى نقطة قريبة لا تبعد أكثر من ربع متر عن الأولى، تكررت العملية. رسموا على ذلك الجزء من سطح الصخرة عشرة حفر بقطر المسمار، قريبة من بعضها على خط مستقيم، ومثلها بشكل عمودي عليها. جلسوا للراحة، دارت علبة السجائر ثانية. قام الريس قائلا: يا سيدي يا عبد الرحيم!
عاد إلى النقطة التي تتوسط الخط، وضع المسمار الصلب فيها. عاودا الدق، هذه المرة بقوة حقيقية مضاعفة! صيحات حامد الرتيبة السريعة تقود المطرقة:
الله …الله… الله…
في دقائق قليلة غمر العرق وجه العاملين، تصاعدت أنفاسهم مع تتابع ضربات المرزبة الثقيلة السريعة، حامد لا يتوقف: الله.. الله.. الله.. كنت أرقب المشهد. حتى رن صوت (طقة) مكتومة! توقفوا عن الدق. نظر حامد إلى جانبي الخط.. على امتداد الخط الواصل بين النقاط المحفورة، ظهر شرخ رفيع في السطح الصلد. جلسوا على الأرض صامتين. سرت بعيني مع الشرخ، وجدت أنه يمتد من الجانب الخارجي إلى الداخل بطول حوالي ثلاثة أمتار، ثم ينحرف بزاوية شبه مستقيمة ثانية إلى السطح الخارجي بعمق لا يقل عن المتر، مع خط الثقوب! قطعة كبيرة من الصخرة انفصلت عنها! ناديت:
-الشاي والسجاير يا ملاك!
قضيت بقية اليوم في مكتبي، في نهاية اليوم وقبل أن أغادر الموقع تسلقت سطح الصخرة ثانية. رأيت أن عملية فصل قطع كبيرة من الصخرة تكررت في أماكن أخرى، حول المحيط الخارجي. ألتفت مبتسما إلى الحاج حامد:
-ضحكت علينا يا حاج، شكلها مش ح تأخد منك يومين!
– لسه الشغل الحقيقي ما ابتداش يا باشمهندس.
– ما تقلقش، حقك محفوظ وفوقيه الشكر.
لم تكن تجربتي مع صاحب العمل في سداد حقوق الغلابة مطمئنة! قال الحجار القناوي:
-من بكرة حنشتغل بالليل، إذا ما كانش عندك مانع!
-أبدا!
من بعيد بدا السور الضخم للقلعة.
-يا حاج حامد!
– نعم يا باشمهندس؟
– عاوزك تروح تطلب نص المبلغ بكره من المكتب، تقولهم علشان المصاريف والعدة، وانا ح ابلغهم أني موافق!
نظر إلي الرجل قليلا، ثم قال:
-ماشي يا باشمهندس!
قلت ببطء وأنا أضغط الحروف:
-ومن ناحيتي، لك هدية من جيبي لو خلصت في ميعادك. لكن لو تأخرت ما أضمنشي الشركة ح تعمل معاك إيه!
قال الرجل مبتسما :
-كله على الله!
أدركت أن الرسالة وصلت!

وأنا أغادر الموقع، رأيت عمال الطبلية، يصعدون بخفة إلى الصخرة.
في اليوم التالي، لم يأت الريس وعماله حتى ساعة انتهاء العمل. ذهبت إلى منزلي، ثم عدت ثانية إلى الموقع بعد هبوط الظلام. من بعيد، رأيت ضوء فوق سطح الصخرة. صاح الغفير وأنا أتسلق جانب الصخرة (بالك يا حامد، الباشمهندس طالع) تحسست فجوات الصعود في الظلام بصعوبة على الضوء البعيد لمصابيح السيارات. أعلى الصخرة، وجدت مصباح “فتيل” بحاري وعدة شاي ولفة ورق، وثلاث عتلات من الحديد. في الجانب المظلم من السطح لمحت خيال رؤوس عمال الطبلية! صاح حامد: نشربك شاينا يا باش مهندس. وضعوا الكنكة القديمة بيد من السلك المجدول ليغلي الشاي فوق قطع مشتعلة من الخشب. الشاي الأسود الثقيل المركز وخمسة معالق سكر برائحة دخان الخشب المحروق في كوب صغير مسود، شاي غيطان! وضع حامد إحدى العتلات في الثقب الأوسط، ووضع مساعديه العتلتين الآخريتين في ثقبين على الجانبين. بدأ صوت عميق رتيب من عمق الحنجرة:
هيحح..هيحح ..هيحح، يقولها حامد، ويرددها خلفه المساعدان، ثم يرددها الثلاثة معا! مع كل نداء، يرمي الرجال بثقلهم إلى الخلف آخذين العتلات معهم. تحركت القطعة واتسع الشرخ.
صاح عمال الترحيلة: يا عدوي!
أندفعوا جميعا صوبنا، وضع بعضهم أصابعه في الشق الرفيع.
أبتسم الريس حامد، أشعل سيجارة وأخذ يرقبهم وهم يحاولون دفع الصخرة بالعتل، بدون جدوى. أشار لهم أن يبتعدوا، أعطى عتلتين لأثنين منهم، بين لهم الموضع الذي لا يجب أن تتجاوزه العتلة في نزولها الشق المظلم. أراهم كيف يلقون بثقل جسدهم في نفس اللحظة مع غنائه الرتيب. ثم نادى: يارب! فرد العاملان بصوت لم تكتمل خشونته بعد: يارب! الله… الله. هيحح.. هييحح! تحركت الصخرة قليلا! مع كل حركة صغيرة للصخرة المفصولة، يزداد هياج عمال الطبلية الصغار وصياحهم وتدافعهم للمشاركة، حتى الريس حامد الهادئ الجاد، كان يبتسم بطيبة. القطعة المنفصلة تتحرك ببطء حتى برزت إلى الخارج، أشار الريس حامد لمساعديه، وقفا خلف عاملي الطبلية كي لا تأخذهم معها الصخرة وهي تهوي! حانت لحظة الدفعة الأخيرة، سقطت القطعة من أعلى سطح الصخرة العملاقة إلى الأسفل محدثة ضجة ومثيرة سحابة من غبار أبيض غطى رؤوسنا وملابسنا! علا صياح عمال الطبلية، ساد فرح ، ارتفعت الأيدي والقفز في الهواء! أرسلت ملاك لشراء عشاء للجميع. على الضوء الخافت للفانوس البحاري، فوق سطح الصخرة المهزومة، تناولنا العشاء.

10377981_10152190056825303_4588122680570751020_n

رئيس النحرير

المشرف العام على موقع العالم الحر
زر الذهاب إلى الأعلى