كأن الأرض والبحر والسماء لم تعد كافية للقتال والحرب، فبدأت القوى الكبرى في استحداث ميادين جديدة للحرب، واختارت، هذه المرة، الفضاء الخارجي، ساحة له، وأعلن الجيش الأمريكي، مؤخراً، تشكيل قوة جديدة باسم “القوات الفضائية الأمريكية”، أو “US Space Force”، لتصبح القوة السادسة في قوام القوات المسلحة الأمريكية بعد القوات البرية Land Forces، والبحرية Navy، والجوية Air Forces، والمارينز Marines، والقوات الخاصة Special Forces.
تكونت تلك القوة الجديدة في عهد الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، وقوامها 16 ألف فرد من ضباط وجنود وعناصر مدنية، وتقرر أن تتبع قيادتها، مؤقتاً، قيادة سلاح الجو الأمريكي. وفي الأسبوع الماضي أعلنت المتحدثة باسم البيت الأبيض أن إدارة الرئيس جو بايدن ستواصل العمل على تكوين القوات الفضائية الأمريكية، كفرع كامل بالجيش الأمريكي، لتضمن الهيمنة الأمريكية، في الفترة القادمة، على حرب الفضاء، بعدما ضمنت الهيمنة والتفوق في حرب الأرض.
كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتن قد علق على إنشاء تلك القوة الأمريكية الجديدة، قائلاً، أن القيادة العسكرية والسياسية الأمريكية تعد الفضاء كساحة عسكرية جديدة، وهو ما اعتبره تهديداً للمصالح الروسية، ولأمن بلاده القومي.
وهنا يبرز السؤال لماذا الحاجة لإنشاء مثل هذه القوة الجديدة؟ ولماذا اللجوء للفضاء الخارجي؟ ويرجع الموضوع إلى أن المفكر العسكري راقب الاتجاه إلى استخدام الفضاء الخارجي لأغراض عسكرية جديدة، غير مسيطر عليها، بداية من الأقمار الصناعية، التي انطلقت في الفضاء الخارجي تجمع المعلومات بدقة متناهية، على عكس ما كان يتبع في الماضي القريب، عندما كان الحصول على معلومة، ولتكن مطار أو أحد القواعد العسكرية المعادية، يتطلب إرسال طائرة استطلاع للرؤية بالنظر، أو للتصوير، ثم تعود الطائرة إلى القاعدة ليبدأ تحميض الصور وقراءتها. وتطورت العمليات فأصبحت الطائرة ترسل الصورة مباشرة أثناء العملية الاستطلاعية.
وفضلاً عن طول مدة الإجراءات، وما يرتبط بها من تكاليف، كانت المعضلة الأكبر تكمن في المخاطرة بالأرواح والمعدات العسكرية حال التقاط الطائرات في المجالات الجوية لدول أخرى، وما يستتبعه من إسقاطها، فوراً، وهو ما تغلبت عليه تكنولوجيا الأقمار الصناعية التي تسبح في الفضاء الخارجي، تصور وتلتقط كافة المعلومات حتى عن القوات الأرضية من الدبابات والصواريخ والقوات البرية، وترسل المعلومات مباشرة للقيادة دون أي خسائر ممكنة، ومشكلات دولية باختراق المجال الجوي للدول الأخرى. كذلك ظهرت مهمة أخرى للأقمار الصناعية، تمثلت في توفير اتصالات من الصعب اختراقها والتشويش عليها.
ظهرت، بعد ذلك، المصيبة الكبرى، المعروفة بالصواريخ البلاسيتية، التي تخرج من المجال الجوي، وتسبح في الفضاء الخارجي، ولا يمكن اعتراضها، إلا عند النزول مرة أخرى من الفضاء إلى المجال الجوي، وهي فترة زمنية بسيطة، قد لا تتيح القدرة على تدميرها، فبدأ التفكير في تدمير تلك الصواريخ البلاسيتية أثناء وجودها في الفضاء الخارجي. ومن هنا ظهرت فكرة وجود أسلحة تعمل في الفضاء الخارجي ضد الأقمار الصناعية التي تعمل في جمع المعلومات، والأقمار الصناعية العاملة في مجال الاتصالات، وكذلك أسلحة للتعامل مع الصواريخ البلاسيتية خلال سيرها في الفضاء وتدميرها قبل الوصول لأهدافها على الأرض. ثم ظهرت فكرة استخدام الفضاء الخارجي في أعمال الشوشرة والتشويش على الاتصالات والإشعاعات الرادارية من مناطق لا يمكن تتبعها لأنها خارج المجال الجوي في الفضاء، ليصبح الفضاء الخارجي، في الفترة القادمة، ساحة حرب مفتوحة، وهو ما دفع الولايات المتحدة لتكوين هذه القوة الجديدة للتعامل مع كل هذه العدائيات في الفضاء الخارجي.
وفي مجال متصل، فهناك معاهدة تعرف باسم “السماوات المفتوحة” دخلت حيز التنفيذ في يناير من عام 2002، ضمت 24 دولة، تتيح لهذه الدول تنفيذ برامج استطلاع جوي لطائرات غير مسلحة على أراضي الدول المشتركة في المعاهدة بهدف جمع المعلومات عن القوات العسكرية …
كل ذلك داخل مجال الغلاف الجوي العادي، ولكن، فجأة، في عهد ترامب أعلنت الولايات المتحدة انسحابها من هذه المعاهدة، في ظل استعدادها للاعتماد على القوات الفضائية الأمريكية، واستغنائها عما تتيحه لها معاهدة السماوات المفتوحة، لتليها روسيا في إعلان انسحابها من ذات المعاهدة.
ورغم أن روسيا لم تعلن حتى الآن إنشاء قوات فضائية روسية مماثلة، إلا أن إعلان الرئيس بوتن يؤكد أن روسيا ستبدأ أو بدأت بالفعل، كي لا تسبقها الولايات المتحدة في هذا المجال، وهو نفس الأسلوب الذي اتبعته روسيا، من قبل، في السباق إلى القمر، والسباق في الصواريخ عابرة القارات الحاملة للرؤوس النووية، ولا أتوقع ألا تعلن الصين عن وجودها في هذا المضمار والصراع العسكري الفضائي، وهو ما دعا العديد من المفكرين العسكريين، للتأكيد على أن عام 2025 سيشهد قوى عسكرية عالمية تعمل في مسرح العمليات الجديد وهو الفضاء الخارجي للكون.
وهناك يظهر التساؤل هل سنرى محطات في الفضاء تشبه القواعد العسكرية الموجودة على الأرض يتواجد داخلها أسلحة للتعامل ضد هذه الأقمار الصناعية سواء لتدميرها أو للتعامل معها إلكترونياً؟
وهل ستدار تلك القواعد الفضائية الجديدة من الأرض؟
أم ستتطلب ضرورة وجود عنصر بشري في الفضاء للسيطرة عليها وإدارة عملياتها؟
أما التساؤل الأخطر هل سيتم تقسيم حدود الفضاء بين الدول أيضاً؟
وما هو معيار التقسيم؟
وهل ستصبح الأولوية في التواجد للقوى العظمى التي اقتحمت هذا الفضاء الخارجي؟
إنها أسئلة حائرة، ظهرت، حالياً، مع ظهور هذا الفكر الجديد على مستوى العالم … ولا نعرف لها إجابات بعد!