الحالة الدينية عند العرب «1»
يكاد يتفق علماء الأديان على أن التدين غريزة في الإنسان، وقد عبر عن هذه الحقيقة معجم (لاروس) للقرن العشرين بقوله: «إن الغريزة الدينية مشتركة بين كل الأجناس البشرية حتى أشدها همجية، وأقربها إلى الحياة الحيوانية، وإن الاهتمام بالمعنى الإلهي، وبما فوق الطبيعة، هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية، وإن هذه الغرايز الدينية لا تخفى بل لا تضعف ولا تذبل» ، وشرح (بارتلمي سانت هلير) نشأة التدين بقوله: «ما العالم؟
ما الإنسان؟ من أين جاا؟ من صنعهما؟ ما نهايتهما؟ وما الموت؟ وماذا بعد الموت؟ … هذه الأسئلة لا توجد أمة، ولا شعب، ولا مجتمع إلا وضع لها حلولا جيدة، أو رديئة، مقبولة أو سخيفة، وهذا هو التدين» «2» .
وقد اختلف علماء الأديان في تحقيق الظروف التي تنمّي غريزة التدين في النفس، فيرى بعضهم أنها تنمو حيث يصل الإنسان إلى مستوى من السمو الفكري، والوعي الثقافي، الذي يفكر فيه: كيف خلق؟ ومن خلقه؟ وإلى أين يصير؟
ويرى بعضهم أن غريزة التدين تنمو حيث يظهر اختلاف المظاهر الكونية، وحين يشتد إحساسه بالضعف أمام هذه المظاهر.
ويرى فريق ثالث: أنها تنمو تبعا للرخاء، وهدوء البال، فيجد فراغا من شغله، وهمومه، للبحث في الكون، وخالقه، ومدبره.
والحق أن كلّا من هؤلاء نظر إلى المسألة من جانب خاص، ولا يمكن أن ينهض واحد منها ليكون سببا لنمو فكرة التدين عند جميع البشر، وفي جميع البيئات، والظروف والملابسات «1» .
ومهما يكن من شيء فقد كان العرب من طوائف البشر المتدينين، بل والمتصلبين في عقائدهم على ما كان فيها من زيغ وضلال، ووثنية.
الوثنية
وقد كان معظم العرب وثنيين يعبدون الحجارة من الأصنام، والأوثان، والأنصاب «2» ، بل كان بعض معبوداتهم شجرة كبيرة يعظمونها «3» ، وليس من شك في أن دين إبراهيم عليه السلام كان التوحيد الخالص، وكذلك دين إسماعيل، قال تعالى:
وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) «4» .
وليس من شك في أن أبناء إسماعيل وذريته كانوا على التوحيد الخالص وإنما طرأت عليهم الوثنية بعد.
نشأة الوثنية ببلاد العرب
وقد اختلف العلماء في: متى نشأت الوثنية في بلاد العرب؟ وعلى يد من دخلت؟
فقال فريق من العلماء إن أول من أدخل الأصنام إلى بلاد العرب
عمرو بن لحيّ «1» الخزاعي، فقد ذكر ابن إسحاق أنه خرج إلى الشام وبها يومئذ العماليق، وهم يعبدون الأصنام، فاستوهبهم واحدا منها وجاء به إلى مكة، فنصبه في الكعبة، وهو (هبل) وكان قبل ذلك في زنم الجراهمة قد فجر رجل يقال له: (إساف) بامرأة يقال لها: (نائلة) في الكعبة، فمسخهما الله حجرين كي يعتبر بهما الناس، ويتعظوا، فأخذهما عمرو بن لحي فنصبهما حول الكعبة، فصار من يطوف يتمسح بهما.
وروى ابن الكلبي أن سبب ذلك أن عمرو بن لحي كان له تابع من الجن يقال له: أبو ثمامة، فأتاه ليلة، فقال: أجب أبا ثمامة، فقال لبيك من تهامة، فقال: ادخل بلا ملامة، فقال: ائت سيف جدة، تجد الهة معدة، فخذها ولا تهب، وادع إلى عبادتها تجب، قال: فتوجه إلى جدة «2» ، فوجد الأصنام التي كانت تعبد في زمن نوح وإدريس، وهي: ودّ، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر «3» ، فحملها إلى مكة، ودعا إلى عبادتها، فانتشرت بسبب ذلك عبادة الأصنام في العرب، وصارت فيهم بعد أن كانت في قوم نوح. وفي مسند الإمام أحمد «أول من سيّب السوائب، وعبد الأصنام عمرو بن لحي الخزاعي» «4» .
ويذكر ابن الكلبي رأيا اخر في منشأ عبادة الأصنام، ذلك أنهم كانوا لا يظعن من مكة ظاعن إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم، وصبابة به، فحيثما حل وضعوه، وطافوا به كطوافهم بالكعبة؛ تيمنا منهم بها، وصبابة بالحرم، وحبّا له، وهم بعد يعظمون الكعبة، ومكة، ويحجون
ويعتمرون، ثم لم يلبثوا أن عبدوا ما استحبوا من هذه الحجارة، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وصارت إلى ما صاروا إليه الأمم قبلهم «1» .
ومهما يكن من شيء فقد انتشرت عبادة الأصنام في بلاد العرب، وكان من أعظم أصنامهم (هبل) الذي كان بجوف الكعبة، وكان من العقيق «2» على صورة إنسان، وكان مكسور الذراع، فأبدله القرشيون ذراعا من ذهب، ومن أشهرها (ودّ) وكان لكلب بدومة الجندل، أما (اللّات) فكانت بالطائف لثقيف، وكانت صخرة كبيرة تعظمها ثقيف، وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بهدمها بعد خضوعهم، ودخولهم في الإسلام، وأما (العزّى) فكانت بوادي نخلة، وقد قطعها خالد بن الوليد بأمر النبي، وأما (مناة) فكانت بالمشلّل من قديد «3» على ساحل البحر الأحمر، وكانت الأنصار وغسان يعظمونها قبل الإسلام، وكانوا يحجون إليها، وكان من أهلّ لها لم يطف بين الصفا والمروة، ويتحرج من ذلك، فلما أسلموا بقوا على تحرجهم فأنزل الله قوله:
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما (158) «4» .
فجاءت الاية لنفي هذا الحرج الذي كان في نفوسهم، فلذلك لم يكن في نفي الجناح وهو الحرج ما ينفي وجوب السعي أو فرضيته، وكان الواحد منهم يصنع لنفسه الصنم من العجوة أو الحلوى فإذا جاع أكله! ووجد أحدهم يوما صنما له وقد بال عليه الثعلب، فرمى به وقال:
أربّ يبول الثعلبان برأسه … لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب
الهوامش
(1) حينما يتكلّم عن الدين كظاهرة من الظواهر البشرية يراد به ما هو أعمّ من أن يكون سماويا أو أرضيا، حقا أو باطلا.
(2) «الدين» ، ص 75، 76.
(1) التاريخ الإسلامي والحضارة، ج 1 ص 86.
(2) فرّق بينها ابن الكلبي بأن الصنم ما كان على صورة إنسان من خشب، والوثن ما كان على صورة إنسان من حجر، والنصب حجارة تنصب على هيئة هيكل أو بناء، فيعبدونها ويذبحون عندها.
(3) تفسير الزمخشري عند تفسير قوله تعالى في سورة النجم أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ، وَالْعُزَّى….
(4) الاية 125 من سورة البقرة.
(1) بضم اللام وفتح الحاء- المهملة- وتشديد الياء.
(2) بضم الجيم وتشديد الدال المهملة: بلد بالحجاز.
(3) في صحيح البخاري عن ابن عباس أن ودا، وسواعا، ويغوث، ويعوق، ونسرا كانت أسماء أناس من عظاماء قوم نوح، وصالحيهم، فلما ماتوا صنعوا لهم هذه التماثيل لتكون تذكارا لهم، وعظة، واعتبارا لغيرهم، ليفعل مثل فعلهم، وبتوالي الزمن تنوسي هذا المعنى وعبدت من دون الله، ثم نقلها عمرو بن لحي إلى العرب.
(4) فتح الباري، ج 7 ص 359، 360.
(1) الأصنام، ص 6.
(2) هذا يدل على أن بعض الأصنام قد يكون من غير الخشب والحجر، وأن ما ذكره ابن الكلبي أمر غالبي.
(3) مكان بين مكة والمدينة.
(4) الاية 158 من سورة البقرة.