الاسلاميات

السيرة فى ضوء القران والسنة ج6 بقلم الشيخ موسى الهلالى

ممالك وحضارات في شبه الجزيرة
وقد قامت ممالك وحضارات قديمة في شبه الجزيرة العربية، فنشأت في الجنوب مملكة معين، ثم قتبان، وسبأ، وحمير، وأعظم هذه الممالك:

مملكة سبأ «2»
وقد كانوا ذوي ملك عظيم، وأهل فن هندسي دقيق، وخبرة بإقامة السدود والخزانات، ومن أعظم السدود التي أقاموها «سد مأرب» .
سد مأرب
كانت الأمطار تهطل بغزارة على أرض اليمن ثم تنحدر إلى البحر فتضيع فيه، فلا ينتفع بها إلّا موسم نزولها، وكانت مملكة سبأ قد بلغت مبلغا عظيما في فن العمارة، فعمدوا إلى مكان ضيق يوشك أن يلتقي عنده جبلان عظيمان،
وفي هذا المضيق أقاموا سدا هائلا، وهو «سد مأرب» «1» ، وجعلوا له أبوابا، وعيونا يصرفون منها المياه، وبذلك أمكنهم أن يحتفظوا بالماء وراء السد لينتفعوا به وقت ما يريدون، فزادت رقعة الأرض المزروعة، وزرعوا في العام أكثر من مرة، كما استفادوا به أيضا في التحكم في السيول التي كانت تغرق القرى، وتتلف المزروعات، فكثر الخصب، وعم الرخاء، وعاش أهلها في نعمة عظيمة، وثمار وزروع كثيرة، وأرزاق متنوعة متتالية «2» .
وقد كانوا يتولّون السد بالرعاية والتجديد، فكان كلما تهدم منه جانب أسرعوا بإصلاحه حتى لقد حدث ذلك عدة مرات، فلما ضعفت الدولة في اخر أيامها شغلها ذلك عن العناية بالسد فبدأ يضعف، وقلّت مقاومته للسيول الجارفة، فانهار أمامها انهيارا يكاد يكون كليا، فعمّ السيل البلاد، وسبب الدمار والخراب، وهو ما عبر عنه القران الكريم «بسيل العرم» «3» وبسبب هذا السيل العام، وما حدث قبله من سيول كثيرة، تبدلت الحال غير الحال، وعمّ الخراب الديار والبلاد، وبعد أن كانت بلادهم ذات بساتين مثمرة، وزروع نافعة، صارت ذات أشجار لا تغني ولا تسمن من جوع، وذلك كما قال تعالى:
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) «4» .
وبسبب هذه السيول المتلاحقة، ولا سيما أعظمها، وهو سيل العرم، كانت هجرة بعض القبائل العربية من اليمن، فتفرقوا في غور البلاد ونجدها، حتى

صار مثلا «تفرقوا أيدي سبأ» فنزلت طوائف منهم الحجاز، ومنهم خزاعة نزلوا ظاهر مكة، ومنهم أهل المدينة- وهم الأوس والخزرج- فكانوا أول من سكنها، ونزلت طوائف أخرى منهم بالشام، وهم الذين تنصروا فيما بعد، وهم: غسان، وعاملة، وبهراء، ولخم، وجذام، وتنوخ، وتغلب، وغيرهم «1» ، وأقام أكثرهم باليمن منهم: مذحج، وكندة، وأنمار، والأشعريون، وبجيلة، وحمير، وقد كان انهيار السد سببا في سقوط مملكة (سبأ) وقيام مملكة حمير.

ملوك سبأ
وكان أعظم ملوك سبأ (بلقيس) وقد قص القران قصتها مع سيدنا سليمان عليه السلام، وقصته مع الهدهد حينما غاب، ثم أتى له بخبرها، ومما قصه الله- تبارك وتعالى- يتبين لنا أنها وقومها كانوا يعبدون الشمس من دون الله، وما كانت تتمتاع به مملكتها من أسباب القوة والرخاء، وما كان لها من مجلس شورى، وما كانت تتصف به من عقل ورزانة، وما بلغ فن المعمار في عهدها، وكيف كان عرشها على درجة من الفخامة، والأبهة، اقرأ إن شئت قوله تعالى:
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) ….
إلى قوله تعالى:
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً

كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)
«1» .

مملكة حمير
وبعد أن تضعضع ملك سبأ، وضعف أمر القائمين عليه قامت مملكة «حمير» ، وقد حاولت أن تصلح السدود الموجودة، ولكنها لم تلبث أن انهارت مرة أخرى، وكان من ملوكهم ملك اسمه (ذو نواس) وكان قد اعتنق اليهودية، وكان باليمن نصارى يسكنون (نجران) وقد تسربت النصرانية إلى بلاد اليمن من الحبشة، وكان (ذو نواس) متعصبا لليهودية، فلهذا، ولخوفه أن يمتد نفوذ الحبشة إلى بلاده عن طريق النصارى خيّرهم بين اعتناق اليهودية، أو الموت، فأبوا اعتناق اليهودية، فحفر لهم أخدودا- شقا في الأرض- وأضرمه نارا، ثم صار يعرض عليهم اليهودية، فمن أبى قذفه في النار، حتى أفنى الكثيرين منهم بهذا العمل العاري عن الرحمة والإنسانية، وقيل إنه وأتباعه هم المرادون بقوله تعالى في سورة البروج:
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) «2» .
فلو صح أنهم المرادون بالايات، فيكون هؤلاء المسيحيون كانوا على التوحيد الحق الذي جاء به عيسى عليه السلام، وقيل في أصحاب الأخدود غير ذلك «3» .

اثار سبأ وحمير
وقد خلّفت سبأ وحمير اثارا تدل على العظمة، والرقي، والحضارة، وهي تشمل كثيرا من الأطلال والنقوش، كما كان لها أسطول ضخم ينقل البضائع بين موانىء اليمن، والهند، والصين، والصومال وسومطرة، بحيث كانت التجارة شبه احتكار في يدها، وكذلك كانت سبأ في إبان عظمتها التجارية تسيطر على طرق النقل التجارية التي تجتاز الحجاز متجهة إلى الشمال حيث الشام و (العقبة) ومنها إلى البحر الأبيض «1» .

استيلاء الحبشة على اليمن
وبعد قصة الأخدود المحزنة فرّ رجل من أهل نجران، وذهب إلى قيصر الروم يستنصره، فكتب قيصر إلى النجاشي ينيبه عنه في الدفاع عن النصرانية، وأمده بالسفن، فجرّد النجاشي لذلك حملة بقيادة (أرياط) فانتصر على الحميريين، وأغرق (ذو نواس) نفسه لما عاين الهزيمة وبذلك أصبحت اليمن تابعة للحبشة.

أبرهة
ولم يطل الأمر لأرياط، فقد تمرد عليه أحد مساعديه، وهو (أبرهة) فقتله غيلة وغدرا، وخلص الأمر له، وأبرهة هذا هو الذي قصد مكة لهدم الكعبة ولكن الله رد كيده، ونكل به وبجيشه كما سيأتي.

استيلاء فارس على اليمن
ثم فر أحد أولاد ملوك حمير، وهو (سيف بن ذي يزن) إلى ملك الفرس واستنصره على الأحباش، فأرسل جيشا بقيادة (وهرز) ، وتعاون هو و (سيف)

على القضاء على الأحباش، ولما تم انتصار الفرس أمر كسرى أن يتوج سيف بن ذي يزن ملكا على اليمن، ثم لم يلبث أن قتله الأحباش الذين استبقاهم عبيدا له، وقيل: كان بتدبير من الفرس، ولم يزل الأمراء الفرس يتتابعون على اليمن حتى انتهى الأمر إلى (باذان) ، فلما أرسل النبي كتابا إلى كسرى، داعيا له إلى الإسلام، أمر كسرى (باذان) أن يأتي بالنبي مكبلا، فأرسل اثنين للنبي يطلبانه، فقابلهما النبي صلّى الله عليه وسلّم بحلم، وقال لهما: «إن ربي قتل ربكم في ليلة كذا» وكان كسرى قد قتله ابنه في هذه الليلة، فرجعا إلى باذان، وأخبراه، فلما استيقن الخبر أسلم بسبب هذا، فأبقاه النبي أميرا على اليمن.

مملكة الأنباط
وكذلك قامت في الشمال مملكة الأنباط، وهم قبائل بدوية نزحت من الأرض المعروفة اليوم بشرق الأردن، ونزلت جنوب سوريا، وكوّنت لها مملكة امتدت من غزة شمالا حتى العقبة جنوبا، وقد تحكمت هذه المملكة في طريق التجارة بين الشمال والجنوب، وعاصمة مملكتهم (البتراء) أو (بطره) ، وهي مدينة شهيرة في بلاد العرب حتى اليوم، تمتاز باثارها الفخمة، وبخاصة أنقاض المعبد الذي كان به الالهة التي يعبدها (الأنباط) ، ولا تزال أعمدته الشاهقة شاهدا على ما وصلت إليه هذه المملكة من حضارة ورقي «1» .

مملكة الحيرة وغسان
وكذلك تكونت في الشمال الشرقي من شبه الجزيرة على تخوم فارس (مملكة الحيرة) وتكونت في الشمال الغربي على حدود الروم مملكة (غسان) ، وكانت كل من فارس والروم تتعرض لهجمات بعض القبائل العربية في شمال الجزيرة، يختطفون خلالها ما يستطيعون الحصول عليه ثم يفرون عائدين إلى قلب الجزيرة، حيث لا تستطيع جيوش الفرس والروم ملاحقتهم خوفا من وعورة الطريق، وقلة الماء، لذلك عمد الفرس والروم أن يقيموا حاجزا بينهم
وبين العرب. وكان ذلك الحاجز عبارة عن بعض القبائل العربية تألّفها الفرس والروم وأسكنوها في شمال شبه الجزيرة، وأمد كل من الفرس والروم هذه القبائل بعون من السلاح والمال، وكانت هذه القبائل تعرف مسالك الجزيرة، وتستطيع الوقوف في وجه هجمات المغيرين، وبذلك تكونت في الحيرة مملكة تحمي الفرس، وتحميها الفرس، وتكونت مملكة غسان تحمي الروم، وتحميها الروم.

ملوك الحيرة
ومن أشهر ملوك الحيرة: عمرو بن عدي، والمنذر بن ماء السماء، والنعمان بن المنذر، وقد غضب كسرى على النعمان لأنه أنف أن يزوج أحدا من بناته وأخواته من كسرى، وأولاده، فتوعده كسرى وطلبه، ولكن النعمان هرب، فظفر به وألقاه في السجن حتى مات.

ملوك الغساسنة «1»
وهم من قبيلة جفنة وكانت (جلّق) – دمشق- عاصمتهم، ومن أشهرهم: الحارث بن جبلة، والمنذر بن جبلة، وجبلة بن الأيهم، وهو اخر ملوك الغساسنة، وفي عهده فتح المسلمون بلاد الشام، (وجبلة) هو صاحب القصة المشهورة مع سيدنا عمر بن الخطاب «2» ، وبسببها تنصّر بعد أن أسلم، ثم لحق ببلاد الروم.
وكان ملوك الحيرة، وغسان بوصفهم من سلالة يمنية يحتفظون في مظاهرهم وحضارتهم بالحضارة اليمنية. وأبرز مثال لذلك القصران الشهيران:
(الخورنق) و (السدير) .
على أن أهم دور قامت به هاتان المملكتان هو أنهما كانتا جسرا عبرت عليه
ألوان من حضارة الفرس والروم إلى شبه الجزيرة، وأهم هذه الألوان الحضارية هي: الدين، وضروب من المعازف، وأدوات اللهو، والقراءة، والكتابة، وبعض الألفاظ اللغوية، والفنون الحربية وغيرها.
الهوامش
(1) مكة والمدينة في الجاهلية والإسلام، ص 31، 36.
(2) قال علماء النسب: اسم سبأ: عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان قالوا: وكان أول من سبى من العرب فسمي سبأ لذلك، ويقال: إنه أول من لبس التاج.
(1) في القاموس: مأرب كمنزل موضع باليمن.
(2) البداية والنهاية، ج 2 ص 199.
(3) العرم: الصعب الشديد فهو إضافة الموصوف إلى الصفة، وقيل العرم: المطر الشديد، وقيل اسم الوادي الذي كان يأتي منه السيل وبني فيه السد، وقيل العرم: جمع عرمة وهو كل ما بني لحجز الماء فهو اسم للسد.
(4) الايتان 16- 17 من سورة سبأ.
1) البدآية والنهاية، ج 2 ص 159، 161.
(1) الايات 20- 44 من سورة النمل.
(2) الايات 4- 8 من سورة البروج.
(3) فقد روى الإمام مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده قصة أخرى تغاير هذه في التفاصيل إلا أنها تتفق معها في الغاية، وذكر ابن إسحاق قصة أخرى قريبة مما ذكرها مسلم إلا أنها تختلف بعض الشيء، والذي يظهر لي- والله أعلم- أن قصة الأخدود تعددت زمانا ومكانا، وأشخاصا، وإن كانت نهايتها واحدة وهي فتنة بعض المؤمنين
الصادقين عن دينهم بعرضهم على النار، فلما أبوا الفتنة رموا فيها، وكان من أسرار الإعجاز القراني أن جاء على هذا النهج الحكيم، من غير تعيين للأشخاص، ولا تحديد للزمان، والمكان لتشمل كل هؤلاء، الذين وقع بهم البلاء (البداية والنهاية، ج 2 ص 142- 145) .
(1) التاريخ الإسلامي، والحضارة الإسلامية، ج 1 ص 49.
(1) المرجع السابق، ص 53، 54.
1) سموا باسم بئر نزلوا عليه وهم خارجون من اليمن.
(2) ذلك أنه وطىء إزاره وهو يطوف بالكعبة رجل مسلم، فلطمه جبلة لطمة شديدة، فذهب الرجل شاكيا إلى أمير المؤمنين عمر، فأراد أن يقصه منه، ففر ثم تنصر ولحق ببلاد الروم حتى مات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى