بقلم حسام عيسى باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية تمر بنا الأحداث السياسية بشكل متسارع ومتغير، سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي، ولكي نقرأ هذه الأحداث بشكل صحيح، لا بد من إخضاعها لمنهج علمي دقيق حتى نستطيع استخلاص النتائج والاستدلال بها لفهم أسبابها، وما تشير إليه تلك الأسباب والنتائج. من خلال منهج استقرائي وملاحظة الأحداث، وباعتماد النظرية الواقعية كأساس لدراسة الأحداث السياسية – التي تقر بأن أساس العلاقات الدولية قائم على الصراع، وأن الصراع بين الدول يعتمد على القوة – نجد أن المفهوم الأساسي للعلاقات الدولية هو القوة، وهذا ما أكد علية علماء هذه النظرية وعلى رأسهم “هانز مورجنثاو”. وعلى جانب أخر في علم “الدولة” أن قوة الدولة تعتمد بشكل رئيسي على قدراتها الذاتية، وهو ما أشار إليه العالم “رتزال”، رائد علم الجيوبوليتيك، في كتابه “الجغرافيا السياسية” عام 1897م، حيث رأى أن قوة الدولة تعتمد على القوة البشرية وثقافتها والاقتصاد والقوة العسكرية. إضافة إلى ذلك، فإن محرك السياسات الدولية هو المصلحة القومية، والتي ترتكز في جوهرها على الاعتبارات الاقتصادية و بالأحرى قوة الدولة بشكل عام هي التي تدعم هذه المصلحة. وبالتالي، فإن دوافع الدول في الغالب تكون اقتصادية، وهو ما أكده عدد من علماء السياسة، مثل: – إدوارد لوتواك في كتابه “إستراتيجية الحرب والسلام”. – ريتشارد نيد ليبو في كتابه “لماذا تحارب الأمم”. – جينفر هاريس (الباحثة السياسية) وروبرت بلاكويل في كتابهما “الحرب بوسائل أخرى”. ومع ذلك، فإن دوافع الأفراد غالبًا ما تكون معتقدات دينية أو أيديولوجية، وهذا ما تدفع بة الدول. ولتحليل الأحداث الإقليمية والدولية، لا بد من استخدام التحليل الجيوبوليتيكي، أي النظر إلى الخريطة العالمية بشكل شامل، نظرًا لتداخل تأثيرات الدول في تشكيل السياسة الدولية للنظام العالمي، وتشابك المصالح بين مختلف مناطق العالم. ومن خلال الجمع بين النظرية الواقعية والدوافع الجيواقتصادية والتحليل الجيوبوليتيكي، يمكننا قراءة الأحداث السياسية الإقليمية والدولية بشكل أكثر دقة. البداية مع مصر – بالمنظور الجيوبوليتيكي: لقد أكد العالم ماكيندر أن الإقليم العربي – وتحديدًا “الشام الكبير” المتمثل في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن” – هو نقطة ارتكاز الإقليم العربي، بينما تُعد مصر قلب الإقليم العربي. فمن يسيطر على القلب (مصر) ونقطة الارتكاز (الشام) يستطيع السيطرة على الإقليم العربي بأكمله، ومن يسيطر على الإقليم العربي يستطيع التأثير في جزيرة العالم – قارة أوروبا وآسيا وإفريقيا(حسب نظرية ماكيندر)، وبذلك يستطيع أن يسيطر على العالم. إذا نظرنا إلى دول “الشام الكبير”، نجد أن معظمها قد سقط ما بين دولة فاشلة أو هشّة أو ضعيفة، ولم يبقَ إلا الدولة الرصينة الراسخة في قلب الإقليم العربي، وهي مصر؛ لذا تسعى الدول القطبية إلى بسط نفوذها على مصر لضمان التواجد في هذا الإقليم الحيوي المليء بالثروات، من بترول وغاز، إضافة إلى موقعه الجغرافي والاستراتيجي. بالتحليل الجيواقتصادي: تمثل مصر قلب الإقليم العربي ومفتاح التواجد فيه، كما تمتلك محورًا مؤثرًا في التجارة العالمية الذي يتمثل في قناة السويس، الذي يعد عنصرًا حاسمًا في استراتيجيات أقطاب النسق الدولي. فمن خلاله: – تمر 12% من التجارة العالمية. – يعبر 60% من صادرات الصين إلى الاتحاد الأوروبي. – يتم نقل 90% من واردات الاتحاد الأوروبي من النفط والغاز. كما تملك مصر احتياطيات من الغاز كبيرة في البحر المتوسط، سواء في منطقتها الاقتصادية أو عبر حدودها مع فلسطين (قطاع غزة) وليبيا، مما يجعلها قادرة على توفير بديل للغاز الروسي للاتحاد الأوروبي. لذلك، تُعد مصر محط أنظار أقطاب النسق الدولي، حيث تسعى: 1. الولايات المتحدة: إلى توطيد وجودها في الإقليم العربي لحماية مصالحها الجيواقتصادية، والحفاظ على هيمنة الدولار كعملة عالمية مدعومة بالقوة الأمريكية، وضمان بقاء حلفائة، والقدرة على التأثير على الدول المستوردة للبترول، والتأثير على حجم البترول المتداول عالميا، والسيطرة على أسعار البترول. 2. الاتحاد الأوروبي: يرى مصر شريكًا اقتصاديًا لضمان تدفق وارداته عبر قناة السويس، وأملًا في تعويض الغاز الروسي بغاز المتوسط، وحماية أراضيه من الهجرة الغير شرعية. 3. الصين: تعتمد على مصر كشريك استراتيجي لتأمين تجارتها مع الاتحاد الأوروبي، حيث يعبر حوالي 35% من تجارتها العالمية عبر القناة السويس، وتسعى أن تجعل مصر منطقة لوجستية لتصدير منتجاتها إلى أوروبا ودول الخليج عن طريق الأراضي المصرية. 4. روسيا: تحاول التواجد في الإقليم العربي عبر شراكتها مع مصر في مجال غاز المتوسط، وكمحطة انطلاق نحو القارة الأفريقية، ودعم مصر بتكنولوجيا الطاقة النووية السلمية (محطة الضبعة النووية)، مثل تواجدها الأن في السويس وبورسعيد.. هكذا تظل مصر في قلب استراتيجيات القوى العالمية، فمنهم من يساهم في بناء “الجمهورية الجديدة”، ومنهم من يرغب في بسط النفوذ عبر الأزمات الاقتصادية أو زعزعة الاستقرار الإقليمي والداخلي. لكن أستطاعت مصر في العقد الأخير، أن تحمي وتعزز موقعها الجيوسياسي عبر: – السيطرة على حدودها بقوة جيشها الذي تقدم من المرتبة 23 إلى بين أقوى 10 جيوش عالميًا. – تحقيق هذا التقدم رغم معارضة القوى الدولية التي لا تريد قوة إقليمية تفوق قوة الكيان الإسرائيلي. – الاعتماد على القوة الذاتية، كما أكد عالم الجيوبوليتيك “رتزال” في كتابه “أسس الجغرافيا السياسية”عام 1897م. – كما استطاعت المخابرات المصرية التوغّل لحماية الحدود الإقليمية للدولة المصرية. وهو ما تجسّد بوضوح في زيارة رئيس المخابرات المصرية إلى قطاع غزة، التي مثلت تأكيدًا على التمكّن الاستراتيجي المصري خلف حدودها السياسية. -بالإضافة إلى ذلك، تمكّنت مصر من تعزيز سيطرتها على حدودها الجنوبية، حيث قدمت الدعم العسكري والمشورة للقيادات الشرعية السودانية والشعب السوداني لاستعادة السيطرة على أراضيهم، كما استضافت آلاف النازحين السودانيين على أراضيها. -وعلى الجبهة الليبية، فرض الجيش المصري والمخابرات المصرية “الخط الأحمر” على مسافة ألف كيلومتر داخل الأراضي الليبية، لحماية الأمن القومي المصري ومساندة الجيش الليبي في استعادة السيطرة على أراضيه. -كما عزّزت القوات البحرية المصرية أمن الحدود البحرية في البحر المتوسط، محوّلة علاقات مصر مع دول الجوار من العداء إلى الصداقة. تحوّلات استراتيجية تحت قيادة السيسي: تمكّنت الإدارة المصرية بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي من تحقيق إنجازات استثنائية في عقدٍ واحد: 1. الأمن والاستقرار: القضاء على الإرهاب في سيناء، وتحويل مصر إلى واحة آمنة للاستثمار. 2. التنمية الشاملة: بناء بنية تحتية متطورة تشمل – مدن جديدة وصناعية، وشبكة طرق وكباري ومواصلات سريعة، وموانئ حديثة مثل – ميناء سفاجا على البحر الأحمر _ ميناء العريش على البحر المتوسط _ ميناء جرجوب في مرسى مطروح. 3. الموقع الجيواستراتيجي: جعل مصر بوابة رئيسية لإفريقيا، وممرًا تجاريًا عالميًا يربط الشمال بالجنوب، وأصبحت مصر مهيئة الأن أن تكون مركزًا للأستثمار، حيث الاستقرار السياسي والأمني. التقدير الدولي لمكانة مصر: 1. دعوة روسيا الفريدة: لقد تم دعوة مصر الدولة العربية الوحيدة المدعوة لحضور احتفالات عيد النصر في موسكو، تقديرًا لمكانتها الاستراتيجية – الجيوسياسي والجيواقتصادي.. 2. عضوية “بريكس”: انضمت مصر إلى المنظمة “البريكس” التي تمثل 35% من