مأخوذة من النهار العربي-لبنان بقلم الدكتور عاصم عبد الرحمن تعيش إيران اليوم واحدة من أشد فترات التحول والاحتقان في تاريخها الحديث بحيث خرجت أزماتها من فضاء الخارج إلى حيز الداخل. النظام، الذي لطالما تمسك بالقمع والسيطرة الأمنية كأدوات للبقاء، يواجه الآن تحدياً مركباً لا تقتصر أبعاده على الاقتصاد والسياسة وحسب، بل انتقلت العدوى إلى البنية الاجتماعية والثقة الشعبية. في هذا المشهد، تبرز المقاومة المدنية، وعلى رأسها وحدات النضال الشعبية، كقوة محركة للانتقال نحو التغيير الجذري. فأين الشعب الإيراني اليوم بعد مواجهات الإقليم غير المحسومة؟ أزمات متراكمة وفقدان السيطرة شهدت إيران في الأشهر الأخيرة تسارعاً في التدهور المعيشي والاقتصادي، مع تسجيل تصاعد نسبة الفقر إلى ما يزيد عن 80% وفقاً لبيانات رسمية. ارتفاع الأسعار، النقص في الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء، وقضايا الاحتيال في مشروعات إسكان الدولة، شكلت وقوداً لغضب شعبي متصاعد ومظاهرات متتالية. ولم تعد هذه التحديات مجرد أرقام بل تحوّلت إلى ممارسات احتجاجية يومية في شوارع المدن الكبرى والصغرى، تحمل مطالب واضحة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية ورفض الفساد المؤسسي المتجذر. الانهيار الأمني والتآكل البنيوي على صعيد الأجهزة الأمنية، تعاني القيادة من تشتت وانهيار الثقة في الذات. فقد تسببت الهزائم المتلاحقة والاختراقات الأمنية بفقدان النظام ما يعرف بـ”العمق الاستراتيجي” في المحيط الإقليمي، إضافة إلى فقدان عدد من كبار القادة العسكريين، الأمر الذي كشف عن ضعف هيكلي لا يمكن ترميمه عبر القمع وحده. وقد زاد ذلك من هشاشة القبضة الأمنية وأدى إلى انتشار القلق والإحباط بين صفوف الحرس الثوري وأذرع النظام العسكرية. خيارات خامنئي وحتمية الأزمة يقف المرشد الأعلى علي خامنئي اليوم أمام مفترق طرق حقيقي. التراجع عن السياسات النووية والتدخل الإقليمي يعني فتح الباب أمام انتفاضة شعبية قد تطيح سلطته، بينما الإصرار على الاستمرار في هذه السياسات يوسّع العزلة الدولية ويزيد من هشاشة النظام. لذلك، اتجهت طهران إلى تشديد إجراءات القمع وتكثيف الإعدامات، وفرض ما يشبه “حالة الطوارئ غير المعلنة” في محاولة يائسة لاحتواء غضب الشارع. إلا أن الخطوات القمعية كافة، لم تعد قادرة على كبح جماح السخط الجماهيري المتجدد. إنَّ المشهد الإيراني الحالي يُعتبر نقطة تحول بين تفسخ ديكتاتورية استنفدت أدواتها، ونضوج حركة شعبية تقاوم. وأصبح الشعب الإيراني، بمقاومته المنظمة، في موقع متقدم لتغيير المعادلة السياسية والاجتماعية، وبناء مستقبل يليق بتضحياته وتاريخه. هذا الشعب يرى أن أي رهان على حلول ترقيعية من داخل النظام أو شعارات المهادنة الإقليمية لم تعد قادرة على إقناعه، في حين يرى أن الحل الحقيقي يكمن في الاعتراف الكامل بحقه في تقرير مصيره ودعم المسار الديمقراطي.
“كأنهم ملأوا الأكياس بالتراب”.. إيران تشتعل من داخل المخابز
بقلم رندة جباعي في إيران، انتهت الحرب قبل أسابيع، لكن الأوضاع توشك على الانفجار. ليس بالصواريخ هذه المرة. أزمة كبيرة تحاول طهران التستر عليها. لكن مقاطع مصورة حصلت عليها “الحرة” من الداخل الإيراني، توثق تظاهرات في أكثر من 30 محافظة إيرانية احتجاجا على ندرة رغيف الخبز. تأكدت “الحرة” من أصالة مقاطع الفيديو، ومن أن الاحتجاجات تتعلق بارتفاع أسعار لقمة العيش. هذه الاحتجاجات ليست الأولى هذا العام. في أبريل، تظاهر الخبّازون في مدينة كرمنشاه، غربي إيران، احتجاجا على زيادة مفاجئة، بلغت ثلاثة أضعاف، في كلفة التأمين. ومع تفاقم الأعباء على الخبّازين والمستهلكين على حد سواء، امتدت شرارة الاحتجاجات إلى عدة مدن إيرانية. تقول رميش سبهراد، رئيسة المجلس الاستشاري لمنظمة الجاليات الإيرانية، في حديث مع “الحرة”، إن المراقبين يرون في هذه التحركات امتدادا لاحتجاجات سابقة أشعلها ارتفاع أسعار البنزين عام 2019، وقبلها أسعار البيض في مدينة مشهد. “في كلتا الحالتين، انتهت الأمور إلى انتفاضة شعبية واسعة رفعت شعارات من قبيل: ‘يسقط الديكتاتوريون’، و‘الشعب الإيراني يريد تغيير هذا النظام وإسقاطه’”، تضيف سبهراد. منذ أبريل وحتى يوليو، تتصاعد الأزمة من دون توقف. أحد الخبازين من داخل إيران يقول لـ “الحرة” إن موقع توزيع طحين الشمال أُغلق منذ أكثر من شهر من دون أي إشعار رسمي. “أُجبرنا على استخدام طحين طهران فقط، لكنه لا يصلح حتى لصنع الخبز! من دون أي جودة، كأنهم ملأوا الأكياس بالتراب”. يضيف بانفعال: “المسؤولون يكررون على مسامعنا نفس العبارات، كأنهم يخاطبون طفلا صغيرا: ‘اذهبوا، سنعقد اجتماعا ونحلّ الأمور’. نعرف تماما هذا النوع من الوعود. منذ ستة أشهر وهم يرددونها، ولم يتغير شيء”. “حسبي الله. لقد جعلونا نتصارع في ما بيننا، المشكلات والنزاعات اليومية داخل المخبز باتت أمرا معتادا”. استمرت الاحتجاجات في التصاعد. وفي تصريح لموقع “الحرة”، قال مهدي عقبائي، عضو المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، إن النظام لجأ إلى أساليب التهديد والضغط الأمني لكبح موجة الغضب الشعبي”. بالتوازي، شنّت وسائل الإعلام الرسمية، ولا سيما التلفزيون الحكومي، حملة دعائية مكثفة لتشويه احتجاجات الخبّازين، مما زاد من حالة الاستياء الشعبي، وعمّق انعدام الثقة بمؤسسات الدولة. وفي 2 يوليو 2025، ذكر موقع “ههنگاو” الحقوقي أن السلطات الإيرانية اعتقلت “يدالله علمي”، رئيس اتحاد خبازي مدينة سقز، إلى جانب ما لا يقل عن عشرة خبّازين آخرين شاركوا في الاحتجاجات. وبحسب مصادر مطلعة، نفذ الاعتقالات جهاز الاستخبارات، عقب تنفيذ الخبّازين إضرابا جماعيا في اليوم نفسه. خلال حرب الاثني عشر يوماً مع إسرائيل، ثبتت الحكومة الإيرانية أسعار الخبز، وصباح الأحد عاود سعر الخبز التقليدي الارتفاع في محافظات مثل قم، وخراسان رضوي، وهمدان، وجيلان. يلفت مهدي عقبائي إلى أن النظام يتجنّب رفع أسعار الخبز خلال الأزمات لتلافي أخطار الانتفاضات الشعبية. لكنه، ما إن تنتهي تلك هذه الأزمات، حتى يسارع إلى تنفيذ خطط الزيادة بذرائع شتى. السبت الماضي، قال محمد جواد كرمي، رئيس فريق عمل الطحين والخبز، إن الزيادة كانت مقرّرة قبل حرب الأيام الـ12 الأخيرة. لكنه أضاف: “نظرًا للظروف، تم تأجيل التنفيذ. والآن، مع استقرار الأوضاع، تعتزم محافظة طهران إعلان الأسعار الجديدة”. تعتبر سبهراد أن النظام الإيراني يدرك تمامًا أن التلاعب بالأسعار والضغط المعيشي على الشعب يمكن أن يكون شرارة جديدة لانتفاضة شعبية. تقول: “من الواضح أنهم لم يرغبوا في مواجهة ذلك خلال حرب الاثني عشر يومًا”. وتضيف: “لكن ما هو بالغ الأهمية، إذا نظرنا إلى عامي 2024 و2025، نجد أن النظام يواجه إحصاءات مخيفة”. تؤكد سبهراد أن إيران شهدت أكثر من ثلاثة آلاف احتجاج خلال هذه الفترة. لم تكن التحركات من قِبل الخبازين فقط، بل شارك فيها المعلمون، والطلاب، والشباب، والمتقاعدون، والمصرفيون، وسائقو الأجرة، والشاحنات. وتختم: “هذا يدلّ بوضوح على انهيار اقتصادي واسع، وانعدام شبه كامل للشرعية السياسية”. شهدت إيران في السنوات الأخيرة موجات احتجاج اجتماعي متواصلة، تمحورت معظمها حول قضايا معيشية. خلال السنوات السبع الماضية فقط، اندلعت خمس انتفاضات شعبية، كل واحدة منها شملت أكثر من 150 مدينة، وهزت أسس النظام بشكل كبير. تقول رميش سبهراد إن الجمهورية الإسلامية تمرّ اليوم بأضعف مراحلها الاقتصادية منذ عام 1979. وتعزو ذلك إلى أسباب واضحة: انهيار اقتصادي خارج السيطرة، عجز عن توفير خدمات أساسية مثل الكهرباء والغاز والمياه، فساد متجذّر، وقمع لا ينقطع. هذه العوامل، كما تقول، كانت وراء إشعال انتفاضة عام 2022. في المقابل، نقلت وسائل إعلام رسمية تابعة للنظام، في بداية الشهر الحالي، تحذيرات غير معتادة. فقد صرّح محمد صدر، عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام، بأن أكثر من 30 مليون إيراني، أي ما يفوق ثلث السكان، يعيشون تحت خط الفقر. ونقل عنه موقع “خبر أونلاين” أن “المشاكل الاقتصادية تدمر البلاد، وحلّها يتطلب سياسة خارجية فعالة، لا إصلاحات داخلية فقط”. في 14 يوليو 2025، نشرت صحيفة “ستاره صبح”، المقرّبة من النظام، تقريرًا نقل عن خبراء اقتصاديين أن واحدًا من كل ثلاثة إيرانيين يعاني من صعوبات معيشية. وأرجع التقرير السبب إلى غياب الأولويات الاقتصادية لدى الحكومة، التي تفضّل التركيز على “محاربة الغرب والولايات المتحدة وإسرائيل” بدلًا من معالجة الأزمات الداخلية. ويؤكد أحدث تقرير لمركز الإحصاء الإيراني أن معدل التضخم السنوي بلغ في نهاية يونيو 34.5%، في حين وصل معدل البطالة في الربيع إلى 7.7%. أما مؤشر البؤس، فبلغ 42.2 نقطة، وهو أعلى من معدله في الفترة نفسها من العام الماضي، ما يعكس تفاقم الفقر في البلاد. يُعدّ التضخم الجامح من أبرز أسباب وقوع هذا العدد الكبير من الإيرانيين تحت خط الفقر. فمنذ أواخر السبعينات، فقد الريال الإيراني قيمته بشكل مستمر، وسجّلت معدلات التضخم السنوية نسبًا مزدوجة، وأحيانًا ثلاثية. في السنوات الأخيرة، تفاقم الوضع أكثر بسبب ارتفاع سعر الصرف وتكاليف الإنتاج، ما أدى إلى تدهور غير مسبوق في القدرة الشرائية للأسر. تؤكد رميش سبهراد أن نظام الولي الفقيه، الذي يمنح القيادة صلاحيات مطلقة بموجب المادة 110 من الدستور الإيراني، لم يحقّق أي شكل من أشكال العدالة الاجتماعية. بل على العكس، عزز تركيز الثروة والسلطة في يد نخبة ضيقة. تقول إن هذا النظام تحوّل فعليًا إلى نظام طبقي، تُتخذ فيه القرارات الكبرى لخدمة الحاكم والمقرّبين منه، وليس بناءً على المصلحة العامة. وتضيف أن السياسات الاقتصادية القائمة، من التخصيصات المالية غير الشفافة، إلى الدعم الحكومي الفاشل، مرورًا بإهمال البنية التحتية، صُممت لإفقار الأغلبية، مقابل ضخّ الثروات في مؤسسات تخضع لسيطرة المرشد علي خامنئي. في 16 مارس 2025، أعلن وزير العمل في حكومة مسعود پزشكيان أن الحد الأدنى لأجور العمال الإيرانيين للعام الجديد سيبلغ 10 ملايين و399 ألف تومان، أي أقل من 104 دولارات شهريًا وفق سعر الصرف حينها. في اليوم نفسه، علّقت صحيفة “جهان صنعت” المقربة من النظام بالقول: “هذا المبلغ لا يغطي حتى 30% من الحد الأدنى لتكاليف المعيشة.” يضيف عقبائي أن الحرس الثوري، الذراع العسكرية والاقتصادية للولي الفقيه، يُعد من أبرز