مسلسل “المؤسس عثمان” هو امتداد طبيعي لسلسلة “قيامة أرطغرل”، وقد شكّل ظاهرة جماهيرية منذ انطلاقه عام 2019. يعرض المسلسل سيرة عثمان بن أرطغرل، مؤسس الدولة العثمانية، ويعتمد على مزيج من الوقائع التاريخية والتخييل الدرامي. هذه الدراسة تستعرض عناصر القوة والضعف في هذا العمل من حيث السيناريو، الإخراج، التمثيل، الموسيقى، ومشاهد المعارك، وتتناول كيف ساهم هذا الإنتاج في ترسيخ صورة رومانسية وسياسية لتاريخ معقد.
أولاً: السيناريو والحبكة الدرامية
1. الحبكة: بين التاريخ والأسطورة
السيناريو الذي كتبه محمد بوزداغ يميل إلى بناء قصة تتجاوز المادة التاريخية إلى نوع من الأسطرة البطولية. فشخصية عثمان تُقدَّم كبطل خارق، لا يخطئ، دائم الظفر، بما يحول السرد أحيانًا إلى تمجيد مفرط يُفقد القصة شيئًا من مصداقيتها.
ورغم ذلك، فإن الخط السردي ينجح في الحفاظ على عنصر التشويق عبر الحلقات المتعددة، من خلال تنويع الصراعات: بين القبائل، وبين العثمانيين والبيزنطيين، وبين الأتراك والمغول. تُبنى كل حلقة على ذروة درامية تؤسس لتتابع متماسك، وإن بدا أحيانًا مكررًا أو مطولًا بلا مبرر.
2. الشخصيات: العمق الغائب
الشخصيات الرئيسية مثل عثمان، بالا خاتون، وبوران ألب، رُسمت بشكل نمطي: البطل النقي، الزوجة الوفية، المحارب الشرس. ونادرًا ما تُمنح الشخصيات الثانوية مساحة تطور حقيقية، مما يجعل كثيرًا منها مجرد أدوات دعم درامي. في المقابل، ينجح المسلسل في تقديم بعض الأعداء بصورة معقدة مثل نيكولا أو روغاتوس، وإن ظلوا غالبًا محكومين بثنائية “الشرّ المطلق”.
ثانيًا: الإخراج والتصوير
1. الإخراج: ملحمي أم متكلف؟
المخرج متين غوناي يمتلك عينًا سينمائية بارعة، خاصة في تصوير مشاهد الغروب، والتنقل بين المناظر الطبيعية المفتوحة واللقطات القريبة. يعمد إلى استخدام الإضاءة الباردة في مشاهد الصراع، والدافئة في لحظات الصفاء والروحانية.
لكن يُلاحظ الإفراط في استخدام اللقطات البطيئة (slow motion)، خصوصًا في المعارك والخطب، مما يُضعف أحيانًا من الإيقاع ويُدخل المشاهد في حالة من الملل. كذلك فإن بعض مشاهد الحوار الطويلة – رغم جمال اللغة – تشبه المسرح أكثر من الدراما الحديثة.
2. المشاهد الداخلية: ثبات مبالغ فيه
يعاني الإخراج أحيانًا من الجمود داخل المشاهد الداخلية، حيث يكثر استخدام زوايا ثابتة ولقطات واسعة تفتقر إلى الحركية. هذا يتناقض مع الحركية الشديدة في المشاهد الخارجية، مما يكشف عن خلل في التوازن البصري.
ثالثًا: المعارك والمؤثرات البصرية
1. تصميم المعارك: ملحمي لكنه غير واقعي
لا شك أن مشاهد القتال تُعد من أكثر عناصر المسلسل إثارة، حيث يتم استخدام جيوش حقيقية، وخيول، وأسلحة تقليدية، ما يمنحها طابعًا ملحميًا. ومع ذلك، هناك ميل واضح إلى المبالغة في قوة عثمان ورجاله؛ فعدد محدود منهم يقهر جيوشًا بأكملها، ما يُضعف من مصداقية الحدث.
2. التنسيق الحركي: نجاح متفاوت
يُشيد النقاد بتنسيق القتال الفردي (خاصة مبارزات السيوف)، لكن المعارك الجماعية تعاني أحيانًا من فوضى بصرية، أو تكرار في الحركات، أو أخطاء إخراجية كظهور جنود يسقطون قبل أن يُضربوا فعليًا. في المقابل، نجح المسلسل في خلق مشاهد معارك ليلية مثيرة باستخدام الإضاءة والظلال والمؤثرات الصوتية.
رابعًا: الموسيقى والديكور والأزياء
1. الموسيقى التصويرية: بين التأثير والابتذال
الموسيقى التي ألفها زينب ألاس تُعد من علامات المسلسل البارزة، وتمنحه هوية سمعية قوية. إلا أن تكرار بعض المقطوعات دون تجديد يُفقدها أحيانًا تأثيرها. ورغم جمال المقامات الشرقية المستخدمة، يظل غياب التنوع أحد أبرز مآخذها.
2. الأزياء والديكور: واقعية جزئية
تبدو الأزياء مفصلة بعناية، وتستند إلى نماذج تاريخية مقاربة، إلا أن بعضها يميل إلى البهرجة. أما الديكور، خاصة داخل الخيام ومجالس الشورى، فيبدو مسرحيًا ومصقولًا أكثر من اللازم، ويفتقر إلى الطابع الترابي الواقعي للقرن الثالث عشر.
خامسًا: البعد السياسي والإيديولوجي
1. النزعة القومية والدينية
المسلسل يعكس توجهًا تركيًا واضحًا نحو تمجيد الهوية العثمانية والترويج لفكرة الدولة الإسلامية الجامعة. وتُستخدم الخطب الدينية والمشاهد الروحانية (مثل لقاءات الشيخ أديب علي) لترسيخ رمزية عثمان كبطل “مختار من الله”.
يُوظف المسلسل هذه الرمزية في سياقات سياسية معاصرة، مما يجعله – وإن بدا تاريخيًا – أداة خطاب معاصر يستجيب لتوجهات قومية تركية بقيادة العدالة والتنمية.
2. تغييب السياق التاريخي المعقد
لا يُعير المسلسل اهتمامًا كبيرًا للتفاصيل السياسية الحقيقية المعقدة في تلك المرحلة، مثل علاقات التحالف والمصالح المتبادلة بين القبائل، أو انقسامات العالم الإسلامي. بل يميل إلى سردية تبسيطية تقسم العالم إلى “كفار وأعداء” مقابل “عثمان ومناصريه”.
سادسًا: الأداء التمثيلي
1. بوراك أوزجيفيت (عثمان): جاذبية وحضور
يؤدي بوراك دوره بحضور قوي وكاريزما ملحوظة، لكنه يعتمد أحيانًا على تعبيرات وجه واحدة (التجهم أو الحزم)، ما يُفقد الشخصية أبعادها الإنسانية. يبرع في مشاهد القتال والخطب، لكنه يضعف في التعبير العاطفي.
2. باقي الطاقم: تفاوت واضح
تتنوع مستويات الأداء بين ممثلين متمكنين (مثل أركان أفر، الذي أدى دور دوندار ببراعة) وآخرين أقل تمكنًا، خاصة في الأدوار النسائية، التي كثيرًا ما تُقدَّم بصورة مسطحة رغم محاولات القوة والتمكين.
خاتمة: بين الفن والدعاية
“المؤسس عثمان” عمل درامي ضخم يجمع بين المتعة البصرية والسرد البطولي، لكنه يعاني من مشكلات تتعلق بالمصداقية التاريخية، والمبالغة في التمجيد، وتكرار النمطية. لا يمكن إنكار أثره الجماهيري، ولا دوره في إحياء الاهتمام بفترة منسية من التاريخ، لكنه في نهاية المطاف يظل عملًا دراميًا أكثر منه توثيقيًا، يخدم رؤية أيديولوجية محددة تحت عباءة الترفيه الملحمي.