مقالات واراء

“الإعلام بين التفاهة والمسؤولية .. صرخات التغيير في زمن السطحية”

احجز مساحتك الاعلانية

 

سمير السعد

في ظل الانفلات الإعلامي الذي تعيشه بعض القنوات الفضائية، يبدو أن المهنية أصبحت مجرد قشرة رقيقة أُسقطت لصالح التفاهة والسطحية، وتحوّلت المنصات الإعلامية من مصدرٍ للتنوير إلى بوقٍ لتلميع شخصيات لا تمتّ للقيم بصلة. ضيوفٌ يُقدّمون كقدوات، بينما هم في الحقيقة واجهات لفسادٍ اجتماعي واقتصادي، يروجون لحياةٍ مترفة مبنية على استغلال ثروات الشعب بلا رقيب أو محاسبة.
أحد أبرز أمثلة هذه الظاهرة يتمثل في برامج تستضيف أفرادًا أثروا فجأة، من العدم إلى الثراء الفاحش، بدعمٍ من جهات مريبة، ليتم تقديمهم كرموز للنجاح، في حين يتضح لاحقًا أن قصصهم مبنية على الكذب والفساد. كيف يمكن للإعلام أن يساهم في نشر قيم سلبية مثل الاستهتار، غسيل الأموال، وانعدام تكافؤ الفرص، بينما يتجاهل قصصًا ملهمة لشخصيات فاعلة في المجتمع؟
في العراق، وفي خضمّ مشهد إعلامي مليء بالابتزاز والتفاهة، هناك أصوات غاضبة من هذا الانحراف الخطير. أحد الشخصيات العراقية الفاعلة علّق بامتعاض على أسلوب أحد مقدمي البرامج، قائلاً إن التعامل مع هذه العنجهية والتحقير يستحق “صفعة بخفّ على الرأس” تعيد هؤلاء إلى حجمهم الطبيعي. تعبير صارخ يكشف حجم الاستياء الشعبي من الإعلام الذي بات منصة للتهريج بدل التنوير.
بينما تُستضاف شخصيات تمتاز بالسطحية على حساب أصحاب الإنجازات الحقيقية، نجد في الجانب الآخر أمثلة مُشرّفة كالطبيب العراقي الذي أجرى أكثر من 1000 عملية جراحية في ظروف قاهرة، ونجح في إعادة وصل يد فتاة فلسطينية مقطوعة. أليست هذه هي النماذج التي يستحق الشباب أن يراها ويتأثر بها؟
الإعلام ليس مجرد أداة لنقل المعلومات، بل هو مسؤولية كبرى لبناء الوعي المجتمعي. عليه أن يكون سلاحًا لمحاربة الفساد والتفاهة، وليس أداةً لتلميع الفاسدين وتسويق النماذج السلبية. يجب على القنوات الفضائية مراجعة حساباتها، وعلى المجتمع الضغط نحو التغيير.
لذلك، دعونا نبدأ بمطالبة اغلب وسائل الإعلام بتنظيف شاشاتها من برامج الابتزاز والتفاهة، وأن تعود إلى رسالتها النبيلة كمنصة للحق والخير والجمال.
في عالمنا الذي يعج بالتحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، أصبح الإعلام أكثر من مجرد مرآة تعكس الواقع ، إنه قوة قادرة على تغيير المفاهيم وتوجيه الرأي العام. إلا أن هذه القوة تتلاشى عندما يُدار الإعلام بأسلوب يفتقر إلى المصداقية والمسؤولية.
إن الاستمرار في تسليط الضوء على نماذج التفاخر بالثراء الفاحش، ومظاهر الترف التي تُبنى على حساب معاناة الشعوب، لا يؤدي إلا إلى تفكيك نسيج المجتمع. حين يُقدَّم شخص متورط في قضايا فساد أو يملك ثروة غير مشروعة كـ”قدوة” أو “مؤثر”، فإن الرسالة الموجهة للشباب واضحة وصادمة ، النجاح لا يحتاج إلى عمل شاق أو نزاهة، بل إلى استغلال الفرص مهما كانت فاسدة.
من ناحية أخرى، يقف اغلب الإعلام عاجزًا عن إبراز النماذج المشرفة التي تصنع الفارق الحقيقي في حياة الناس. أليس من المخجل أن يتم تجاهل قصص أطباء، معلمين، ومبدعين عراقيين يعملون في ظروف قاسية لخدمة مجتمعاتهم؟ أليس من الأولى أن تُخصص البرامج لتسليط الضوء على إنجازاتهم بدلًا من تتبع تفاصيل حياة شخصيات سطحية تعيش على الهامش الأخلاقي؟
لا يمكن فصل الإعلام عن منظومة القيم المجتمعية، فهو إما أن يكون جزءًا من الحل أو جزءًا من المشكلة. وحين يصبح الإعلام أداة ترويج للتفاهة، فإنه يتحمل مسؤولية مباشرة في تدهور القيم وتراجع المعايير الأخلاقية. لذلك، على صناع الإعلام أن يدركوا أن الاستمرار في هذا النهج ليس مجرد إخفاق مهني، بل هو خيانة لدورهم الأساسي في بناء مجتمع واعٍ ومثقف.
اخيرا .. لا يمكن إنقاذ المشهد الإعلامي دون مساءلة القنوات الفضائية وبرامجها السطحية، ودون مطالبة الجمهور بالتوقف عن متابعة هذه المحتويات الهابطة. إذا كنا نسعى لبناء مستقبل أفضل، فعلينا أن نبدأ بتنظيف الإعلام من التفاهة وتوجيهه نحو ما ينفع الناس، ويرتقي بوعيهم وأخلاقهم. فالتغيير يبدأ بكلمة، والإعلام هو الأداة الأقوى لصياغة هذه الكلمة.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى