عبد الرازق أحمد الشاعر
لم تنته مراسم الحج في بلادنا بطواف الوداع، ولا برمي الجمرات ولا بالنفرة الثانية، ولا بأي من الشعائر المتعارف عليها، فحج هذا العام ممدود إلى أجل غير مسمى، يحدده أولو الأمر في بلاد ما وراء الأديان الذين أتونا من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم دون أن يؤذّن فيهم بالحج نبي أو يدعوهم إلى زيارة بقاعنا المقدسة عاهل ولا أمير.
في رحلة حج غير مقدسة، سينفر بايدن من واشنطن إلى قبة الصخرة، ليمتطي براق الأطماع الكولونيالية الذي أعده ره بنو صهيون ويهبط على حين غفلة من العرب، المنشغلين بتأمين وارداتهم من السلاح والغذاء، فوق بلاد الحرمين.
صحيح أنه لن يرتدي زي الإحرام هناك، وقد لا يزور المشاعر المقدسة أو يطوف بالكعبة، لكن زعماء الخليج سيدونون حجته في سجل اجتماعهم القادم.
وبهذا، سيكون بايدن أول من أدار عقارب الإسراء إلى الوراء، وحلق بطائرته بين عاصمتين كانتا متخاصمتين حتى عهد قريب، وأول رئيس أمريكي يطأ بنعل حذائه بقعتينا المباركتين في زيارة واحدة لشرق أوسط بائس.
أما بوتين، فقد فضل الحج إلى طهران صحيح أن أحدا لم يصرح بأنه سيطوف بالمزارات والمراقد والأضرحة هناك، أو يقوم بمطاردة أحفاد قتلة الحسين في الجزيرة العربية واليمن وسوريا والعراق ومصر، إلا أن قادة الطوائف في قُمّ سيمنحونه بركاتهم ومسيراتهم ويعوضونه عن النقص الحاصل في مؤنه وذخائره حتى وإن كان قلبه ضد الحسين وأسلحته ضد الحسين وعترة الحسين وجد الحسين.
محشورون نحن بين قوسين من لهب، وعلينا أن نختار أكياس الرمل التي سنلقي خلفها أجسادنا المنهكة حين يطلق شرارة الحرب معتوه من أحد الطرفين، رغم أننا نعلم علم اليقين أنها حرب لن تبقي ولن تذر.
حاولنا كثيرا أن ندفن أجنحتنا العارية في الرمال، وأن ننكس هاماتنا وأعلامنا وأن نرتدي أصواتا مموهة حتى لا يتعرف على وجهة أقدامنا أحد، لكننا نجد ظهورنا اليوم ملتصقة بحائط من فولاذ في مواجهة مدافع مصوبة نحو حاضرنا ومستقبل أطفالنا.
صعبة هي المرحلة، وعصيبة هي اللحظة، فقرارات اليوم ستلون بيارقنا في حرب سنجد أنفسنا عما قريب طرفا فيها شئنا أم راوغنا.
ونتائج الحرب ستغير معالم المنطقة وحدود الدول وأبجديات الصراع وموازين القوى ومستقبل الأجيال القادمة لم يأت بايدن ليرقص بسيوفنا المذهبة، ولا ليقبل أنوفنا المقوفة، ولا ليفرض علينا صلحا مع الصهاينة – أصبح الصلح واقعا على أي حال – ولا ليجبر السعودية على القبول بشراكة اقتصادية مع إسرائيل في مشروع نيوم كما يحاول البعض أن يروج، ولا من أجل التبشير بفكرة الديانة الإبراهيمية الكاسدة، ولا حتى من أجل الضغط على دول الخليج لزيادة إنتاجهم من النفط. لكنه سيعيد طرح خيار بوش القديم على طاولة المساومات “إما معنا، أو علينا!”
سيضيق بايدن، الذي ضاقت عليه الأرض بما رحبت، الفرص المتاحة أمامنا إلى خيارين لا ثالث لهما: التبعية المطلقة أو العداء المطلق.
وللتبعية، كما للعداء، مسلمات حربية واقتصادية وسياسية ودينية (إذا لزم الأمر). ولأنه يعلم أنه لا طاقة لنا بالخيار الثاني، فسوف يساومنا على خياره الأول، ويفرض علينا شروطا مجحفة كي يتم قبولنا في تحالف امبراطوري تتزعمه أمريكا وتقوده بالوكالة إسرائيل.
أما بوتين الذي يخوض حربا شرسة ضد أمريكا والحلفاء في أوكرانيا، فيبدو أنه قد نفض يده من العرب الذين تحاشوا طوال الفترة الماضية إغضاب حليفتهم التقليدية في المنطقة، فقرر أن يضع يده في يد من يستطيع أن يعتمد عليه إذا احتدمت الحرب واحتاجت روسيا إلى حلفاء، لاسيما وأن إيران لم تنكر تزويد روسيا بالمسيرات والخبراء حين شاع الخبر لكن الروس لم ينسوا أن يلوحوا مهددين ببطاقتي الغذاء والغزو في وجه من يهدد مصالح روسيا في المنطقة والعالم.
الشرق الأوسط على صفيح ساخن إذن، والحرب التي اشتعلت في الشمال لم تعد بعيدة أبدا عن حقول نفطنا وحقول قمحنا ورؤوس أطفالنا، وهو ما يطرح مسؤولية هائلة فوق كاهل زعماء العرب الذين لم يلتقوا منذ أمد بعيد على مائدة واحدة غير مائدة التبعية.
فهل نستطيع أن نراهن على موقف موحد يحمي أسقف منازلنا ومستقبلنا المشترك، أم نظل نتنقل في مدن التاريخ من مائدة إلى مائدة لنستمع إلى تهديد هنا ووعيد هناك؟ وهل يستطيع قادتنا استغلال لعبة التوازنات في تشكيل تحالف مشترك؟ أم نظل نحارب بالوكالة في حروب لا طاقة لنا بها ولا فصيل؟