متابعة : عادل شلبى
رغم ما يعصف بالعالم، حالياً، من خوف، وقلق، جراء جائحة فيروس كورونا، إلا أن ذلك لم يثنيني عن الاحتفال، بعيد الأم، الذي لم تمنعني ظروفاً، أكثر قسوة، من الاحتفال به، حتى بعد رحيل أمي، رحمة الله عليها، وعلى الكاتب الصحفي، الكبير، مصطفى أمين، الذي دعا للاحتفال بالأم يوم 21 مارس، ورسخ لفكرة “عيد الأم”.
ففي مواجهة جحود، بعض، الأبناء، يهل علينا هذا اليوم، ليخلد أعظم العواطف الإنسانية، وأسمى أنواع الحب في الوجود، الذي يرمز لقيم، غير مشروطة، من العطاء والتضحية، ليس على مستوى الإنسان، فحسب، وإنما يشمل جميع المخلوقات الحية، حتى الجوارح منها.
ومن وجهة نظر الأبناء، يرى كل في أمه أحسنهم، وأطيبهم قلباً في الدنيا، والحقيقة، أنني أول هؤلاء الرجال، فأنا أعتبر أمي أعظم الأمهات، ولها أدين، بكل ما تعلمته، ولازالت أتعلمه، في حياتي. فكل مواقفي معها لازالت محفورة في وجداني، منها مواقف أثناء دراستي بمدرسة بورسعيد الإعدادية، بمدينتي الحبيبة، بورسعيد،
حيث كان يُخصص لنا، ساعتين، كل أسبوعين، للهوايات، فقررت الالتحاق بقسم التصوير، وكان من متطلباته امتلاك كاميرا.
ولما طلبت من أمي شراء الكاميرا، لم تتوان لحظة، وقامت بشراء أبسط أنواع “الكاميرا البوكس”، وكان سعرها، حينها، أربعة 4 جنيهات، وبالرغم من بساطة، تلك الكاميرا، بمقاييس عالمنا المعاصر، إلا أن سعادتي بها، جعلتها الأعظم بالنسبة لي.
التحقت بجماعة التصوير، وتعرفنا، في اليوم الأول، على معمل التحميض بالمدرسة، وتعلمنا أساسيات تحميض الفيلم الفوتوغرافي، ثم بدأنا دروس زوايا التصوير، وتجنب الظل، والتأكيد على التلقائية في الصورة، والاعتماد على الطبيعة.
بعدها اصطحبنا مدرسنا لجولة بشوارع المدينة، لاختيار المناظر التي سنلتقطها، فاختار بعضنا البلكونات الخشبية، التي تميز عمارات بورسعيد، واهتم البعض بتصوير سوق السمك، أما أنا فاخترت تصوير عدد من الأطفال، انتهزوا فرصة سطوع الشمس، بعد هطول الأمطار في ذلك اليوم، فخرجوا إلى الرصيف، بملابسهم البسيطة، يحملون أعواد القصب، فالتقطت لهم ثلاث صور، من زوايا مختلفة.
وعدنا لمعمل التحميض بالمدرسة، يغمرنا الشغف لرؤية أول أعمالنا الفنية.
وخرجت الصور رائعة، ولحسن الحظ، كان من المقرر، بعدها بأيام، إقامة المعرض السنوي للتصوير للمحترفين في المدينة، في مبنى البيت الحديدي، ونجح أستاذنا الجليل، في وضع الصور الفوتوغرافية، لمجموعة المدرسة، في قسم الهواة بالمعرض، وهكذا، عُرضت صوري، لأول مرة، في المعرض السنوي ببورسعيد، بفضل تشجيع أمي لموهبتي، رغم ما تكبدته من مبلغ كبير، آنذاك.
ومرت السنوات، وصرت رئيساً لدار الأوبرا المصرية، أتولى افتتاح العديد من معارض التصوير، فأتذكر، في كل مرة، دروس أستاذي بالمرحلة الإعدادية، وأتذكر أمي، وتشجيعها لموهبتي.
وشجعتني أمي على الاشتراك بفريق الكشافة البحرية، في بورسعيد، حتى أصبحت رئيساً لها، وسمحت لي بالسفر للخارج، وأنا طفل، عمري 12 عاماً، للمشاركة في المؤتمر الكشفي العربي، في تونس، وبعدها بعام، وافقت على سفري إلى المعسكر الكشفي في الفلبين، لمدة 45 يوماً، علاوة على المعسكر الكشفي، السنوي، في حلوان، خلال إجازة نصف العام.
فتعلمت من هذه الرحلات الاعتماد على نفسي، بينما تكبدت أمي تدبير تمويل كل تلك الأنشطة، وأنا ابن، ضمن أربعة أبناء، لكل منهم متطلباته، التي تعمل هي على تلبيتها، فكان ما تعلمته في تلك المعسكرات، الأساس الذي بنيت عليه خبرتي، في القوات المسلحة المصرية، التي أشرف بالانتماء لها.
ظللت ألتمس أسمى معاني الأمومة، في كل المواقف الحياتية، وعشت أحلى، وأرقى، هذه التجارب، وأنا محافظ للأقصر، مع المرأة الصعيدية، ودورها العظيم، في حياة أبنائها، فوجدتها محور تلك الحياة وشريانها.
من النظرة الأولى للطبيعة الجغرافية لصعيد مصر، أو “مصر العليا” إذا عرفتّها بتدفق نهر النيل، تعرف أنها منطقة غير جاذبة للسكان، لارتفاع درجات الحرارة بها، فضلاً عن امتداد ظهيرها الصحراوي، إذ تزحف عليها الجبال، مهاجمة وادي النيل، ومحددة لمساحة واديها الأخضر، فتندر الاستثمارات، وتقل، بالتالي، فرص العمل المتاحة لأبنائها، وهو ما شكّل العديد من عادات هذه المنطقة.
فالشاب بمجرد حصوله على قدر معين من التعليم، يتزوج، ثم يسعى بحثاً عن لقمة العيش، إما في القاهرة، والمدن المصرية الكبيرة، وإما في دول الخليج العربي، أو ليبيا، وهو ما يتحدد، عادة، بأقرباء سبقوه للمقصد، فيسدون له النصح، ويعينوه في البحث عن وظيفة، اعتماداً على ما كونوه من خبرات في مناطق عملهم، فيتوجه حيث نصحوه، تاركاً خلفه الزوجة والأهل.
وهنا يبرز الدور العظيم الذي تلعبه المرأة في الصعيد؛ فبينما يسعى زوجها وراء الرزق، تجدها تصارع الحياة لتربية الأبناء، ورعايتهم، وغرس القيم والتقاليد في وجدانهم، ويمتد دورها لرعاية أهل الزوج، دون تمييز عن والديها. ومع انفراج الأحوال، تجدها مشرفة على تحويل البيت لبناء جديد مسلح.
تفعل كل هذا دونما كلل أو ملل، متقنة جميع أدوارها، بالرغم من عدم تحصيل، معظمهن، لأي قدر من التعليم … فتجدها بذلك عماد الأسرة، وقلبها النابض.
ومع تقدمها في العمر، وزواج أبنائها، ورزقها بالأحفاد، وتكرار مشاهد الحياة، يصير لقبها “العمة”؛ برأيها يستنير كبار أبناء العائلة، ولا يردون لها أمراً، أو طلباً.
لقد صدق قول الشاعر الكبير حافظ إبراهيم، “الأم مدرسة إذا أعددتها أعدت شعباً طيب الأعراق”؛ تستقبلك، فور ولادتك، بين ذراعيها، وتطمئنك نبضات قلبها، ترعاك، وتعلمك، وتغرس بوجدانك قيم عريقة، بأسلوبها الساحر، من خلال سرد القصص والحكايات الشيقة، ولا تفلت يدك، إلا وهي متيقنة من قدرتك على الصمود أمام تحديات الحياة … ورغم ذلك، ومهما تقدم العمر، تشتاق للمسة من يديها، لتشعر بالطمأنينة والأمان.