اسليدرالأدب و الأدباء

صاحب البندقية الفارغه

احجز مساحتك الاعلانية

بقلم : هاجر أبو شعيشع
“عطرُ اليمن”

أبوه يُدخِّنُ الحُزنَ على مَهلٍ ويهذي
أُمُّه تخبزُ بالدموعِ الفطائرَ فتنتهي أمامَ الدَّجاجةِ الوحيدةِ الباقيةِ بعد الحربِ لفرطِ ملوحتِها
(لفرطِ ملوحةِ الحربِ والفطائر)
أُختُه أحبَّتْ صاحبَ البندقيةِ الفارغة
له من الخيبةِ ثلاثُ بناتٍ لا يكبرن ولا يمُتن
زهرُ القرنفلِ على حافةِ نافذتي أقبلَ على مُحاولةِ انتحارٍ لمَّا قال لي:
“لن تقبليني، أنا رجلٌ معطوبُ الخُطا يُربي ثلاثَ خيباتٍ ونفسَه”
وأقولُ:
“النكبةُ لم تغفل عن أحدٍ يا عزيز، أنا أسيرُ أثناءَ نومي”

في شوارعِ الحيِّ القديمِ تحبسُ الأُغنياتُ أنفاسَها
تدهسُ بياداتُ الجنودِ عُقودَ فُلٍّ خلَّفها المحبُّون على الأرضِ قبلَ الرحيل
تبكي العقودُ وتنشجُ نشيجًا مكتومًا وتموتُ قهرًا
يجيءُ عزيزٌ وسيجارُ أبيه وفطائرُ أُمِّه المالحةُ وبُندقيةُ حبيبِ أُختِه الفارغة
يجيءُ بخطواتِه المعطوبةِ تلحقُه ثلاثُ خَيباتٍ ونفسُه
يجيءُ ويُعلِّقُ عينَيه على سياجِ نافذتي بصمت
زهرُ القرنفُلِ يُقبلُ على مُحاولةِ انتحارٍ وتفشل
وأنا أجلسُ على طرفِ سريري خلفَ النافذةِ أُجدِّلُ ذكرياتي وأهمس:
“النكبةُ لم تغفل عن أحدٍ يا عزيز، أنا أسيرُ أثناءَ نومي”

ينفدُ مخزونُ أبيه من السجائرِ فيبدأُ بتدخينِ أصابعِه ويلاحقُه الهُزال
وعزيزٌ تهترئُ منه طُرقاتُ الحيِّ وتُطرقُ أبوابُ الدكاكينِ يبحثُ عن دُخانٍ ولكنَّ الخراب..
تجفُّ عينا أُمِّه فينعدمُ الملحُ في الفطائرِ وتُضربُ الدجاجةُ عن الأكلِ والبيض
وعزيزٌ يطرقُ بابَ الجيرانٍ من أجلِ إعارتِه بعضَ الملحِ ولكنَّ الرحيل..
في الليلِ تجيءُ بُندقيةُ حبيبِها وعليها يدُه ولا يجيءُ حبيبُها فتشهقُ البنتُ وتموت
وعزيزٌ يُحاولُ الاحتفاظَ بعيني أُختِه المرايا ولكنَّ بريقَهما..
يجيءُ عزيزٌ بكُلِّ هذا الفقدِ وهُزالُ أبيه وذبولُ أمِّه وشهقةُ أُختِه والبُندقيةُ الفارغةُ ويدُ حبيبِها
يجيءُ بخطواتِه المعطوبةِ تلحقُه ثلاثُ خيباتٍ ونفسُه
يجيءُ ويُعلِّقُ دموعَه على سياجِ نافذتي وينشج
زهرُ القرنفلِ ملَّ مُحاولاتِ الانتحارِ فاستسلمَ للعَيشِ النَّكِد
وأنا أجلسُ على طرفِ سريري خلفَ النافذةِ أُجدِّلُ ذكرياتي وأهمس:
“النكبةُ لم تغفل عن أحدٍ يا عزيز، أنا أسيرُ أثناءَ نومي”

بعدَ أيامٍ يستحيلُ أبوه وأُمُّه تمثالَين مُنكبَّين على قبرِ أُختِه في فناءِ المنزل
فيملأُ البندقيةَ الفارغةَ بالحصى ويقصدُ عيونَ الجُند
هُنالك في المُعسكرِ أجمعُ أعقابَ السجائرِ وأرباعَ الفطائرَ والرَّصاصَ الساقطَ سهوًا من جيوبِ العساكر
يجيءُ عزيزٌ بكُلِّ هذا الغضبِ وبندقيةٌ مُتخَمة
يجيءُ بخطواتٍ كالنَّصلِ يلحقُه ظلُّه الطويل
يجيءُ وأنا مصلوبةٌ في عينيه وأُنوثتي مُعلَّقةٌ على حاجبَيه المعقودَين
يراني فجأةً عن يمينِه أنبشُ الأرضَ بنظراتي وأبحث
أسقطُ من عَينَيه فجأةً فأتشبَّثُ بحاجبَيه اللذين ينعقدان أكثر، أقولُ:
“النكبةُ لم تغفل عن أحدٍ يا عزيز، أنا أسيرُ أثناءَ نومي”

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى