بقلم/زينة محمد الجانودي
اللّغة وعاء فكر ووسيلة اتّصال وتفاهم، وأداة نقل المعارف والعلوم من جيل إلى جيل، وهي محور أساسيّ في بناء الإنسان بمختلف جوانبه.
واللّغة التي كانت ومازالت اللّغة الأولى لأمّة عريقة أقامتْ حضارة لم يعرف التاريخ مثيلا لها هي اللّغة العربيّة.
فاللّغة العربيّة لا تنحصر فقط بالقواعد والأصول، وضوابط في الإملاء والنّحو والصّرف والبلاغة، بل بالإضافة إلى كلّ ذلك هي ذوْق رفيع، وجمال أخّاذ، بالتعبير عن خلجات النّفوس، ومكنوناتها.
وموسيقى مُطربة، فالأداء الصوتي الجيّد المنسجم في نبراته مع طبيعة الكلام، يعدّ عنصرا مهما للتعبير عن معاني الكلام العميقة، وجزءًا مكمّلا لإجادة اللغة العربيّة وحسن استعمالها.
واللّغة العربيّة قادرة على استيفاء كلّ متطلّبات العصر،
وهي وإن كان لها قواعد ثابتة ولكنّها مرنة نامية قادرة على أداء المعنى المطلوب، وعلى استيعاب المصطلحات العلميّة الحديثة، وتتميّز بعناصر هامّة في بنيتها تجعلها مطاوعة قادرة على استيعاب مايجدّ من المعرفة الإنسانيّة.
فالعيب ليس في اللّغة نفسها، وإنّما العيب في الذين أهملوها، ولم يفهموا معانيها وغايتها، وأضاعوا الجهود الكبيرة التي بذلها أسلافهم في العناية والرّعاية والاهتمام باللغة العربيّة ودراستها والتّأليف فيها، فاللّغة العربيّة ليست مجرّد وسيلة للتخاطب فقط، ولكنّها أيضا فكر وعقيدة وثقافة ومشاعر وتراث وتاريخ، ولايمكن فصل جانب من جوانبها عن الآخر.
ومانراه اليوم عند الشباب العربيّ، من جهل لتراثهم وتاريخهم العربيّ، إنّما هو نتيجة لضعغهم في لغتهم، لأنّ الضّعف اللّغويّ يؤدّي إلى الضّعف الفكريّ والثقافيّ، وذلك يعود لعدّة أسباب عامّة وأسباب تعليميّة، ويترتّب على هذه الأسباب العديد من الآثار.
_ ومن أهمّ أسباب الضعف العام في اللّغة العربيّة:
١- الجهل بقواعد الإملاء العربي، الأمر الذي يؤدّي إلى الكتابة بما يخالف القواعد الصّحيحة،وكثرة الأخطاء اللّغويّة الشائعة المخالفة للمسموح في اللّغة وأصولها الثّابتة، وهذا مانراه في بعض الكتب والصّحف والرّسائل والتقارير…
٢- الجهل بقواعد النّحو العربيّ، فينصب المرفوع ويجرّ المنصوب، ولا يميّز بين المعرفة والنّكرة، في مايكتب.
٣- المبالغة في استعمال الكلمات العاميّة والأجنبيّة، في الصّحافة العربيّة عموما، بلا داعٍ مع سهولة استعمال الفصيح والمقابل العربيّ لها.
٤- قلّة عدد القارئين من أفراد الشّعب، فانتشرت مقولة أنّنا شعب غير قارئ، وقد يؤدّي ذلك إلى إعاقة المسيرة الحضاريّة والإبداعيّة للأمّة.
٥- الاستعمار سبب رئيسيّ في الضّعف العام في اللّغة العربيّة، وذلك من خلال محاربته للّغة العربيّة لأنّها تمثّل روح الأمّة العربيّة، وهي رمز وحدتها وبقائها، فسعى إلى طمسها، وذلك ببناء خطّة ترمي إلى تقديم اللّغات الأجنبيّة على اللّغة العربيّة في الأقطار العربيّة، ومحاولة تطبيق مناهج اللّغة الأوروبيّة في التّدريس ودراسة اللّهجات العاميّة، كي نتحلّل من الأصول والقواعد التي صانت لغتنا خلال خمسة عشر قرنا من الزّمن.
_ ومن أهمّ الأسباب التعليميّة لضعف الطلّاب في اللغة العربيّة هي:
١- افتقار كتب القراءة إلى التدرّج اللّغويّ والتخطيط السّليم لها، ويؤدّي هذا إلى ضعف اقتران القراءة بالفهم والاستيعاب.
٢- ازدحام مناهج النّحو بكثير من القواعد و تعقيدها على الطالب، من حيث الإعراب المعقّد، أو القواعد التي لا تُفَهّم للطالب ببساطة، وخصوصا بالنسبة للطلّاب متوسّطي التحصيل والضّعفاء، فتُكَوّن نظرة سلبيّة من قبلهم عن اللّغة العربيّة وصعوبتها.
٣- قلّة استخدام الوسائل التّعليميّة الحديثة في تعلّم اللّغة العربيّة، وعدم اهتمام المعلّم بأن يدخل على درسه التنويع والنّشاط والحيويّة، واستخدام الطّرق التقليديّة، الأمر الذي يفقد حصّة اللغة العربيّة عنصر التّشويق والإثارة، وعدم تحبيبه بالمادة لطلّابه فينعكس ذلك على الطلّاب ويحاكون مدرّسهم بصورة سلبيّة، وينفرون من اللّغة العربيّة.
_ آثار الضّعف العام وضعف الطلّاب في اللّغة العربيّة
إنّ استمرار الضّعف في اللّغة العربيّة من غير أن تمدّ يد العلاج الفعّال لوقفه، يؤدّي إلى استفحاله، حتى ينتهي به الحال إلى موت اللّغة والقضاء عليها، وفقدان الهويّة، وذوبان الشخصيّة، وانقطاع الصّلة بالرّابطة التي توحّد الأمّة، وتشدّ كيانها، وتحقّق لها استقلالها، فالحفاظ على اللّغة، هو حفاظ على الأصالة والانتماء القوميّ، وتضييعها هو تضييع لهذه الأصالة وهذا الانتماء.
ولذلك تسعى الأمم الحيّة دائما إلى الحفاظ على سلامة لغتها، وحمايتها والحذر من تسرّب عوامل الضعف إليها، لأنّها تنظر إلى لغاتها بأنّها تعبّر عن الكيان، وشعارا للذاتيّة، ورابطة قوميّة، ورمزا للكرامة الوطنيّة.
ففي فرنسا مثلا كُوّنَت المؤسّسات، وأُلّفت اللجان، وعقدت المؤتمرات، وكتبت المقالات والتحقيقات في الصّحف، من أجل صدّ بعض الكلمات الدّخيلة على لغتهم، حيث اعتبروها غزوًا ثقافيا وخطرا يهدّد لغتهم، يجب مقاومته.
والإنجليز أيضا من أحرص النّاس على سلامة لغتهم، ولايسمحون بخرق قواعدها، أو التغيير في حرف واحد، ويتشدّدون في وضع الفواصل وغيرها من علامات التّرقيم.
ونضرب مثلا أيضا عن الكيان الصهيونيّ، – وقد يستفيد المرء من عدوّه-، فقد استطاع هذا الكيان العدوانيّ بمجهودات جبّارة أن يحيي اللّغة العبريّة التي ماتت منذ أكثر من ألفي سنة، وأن يبعثها من جديد في خلال سنوات معدودة، فقد تكوّن المجمع العلميّ للغة العبريّة عندهم عام ١٩٥٣، وبجانب هذا المجمع كوّنوا مجلسا أعلى يضمّ نحو أربعين لجنة متخصّصة في كلّ الفروع العلميّة والفكريّة والأدبيّة والفنيّة، تهتمّ بمسايرة اللّغة للتطوّر المستمرّ، واستحداث المصطلحات والمفردات العبريّة التي تغطّي الحاجة في كلّ المجالات، ومايتّفق عليها منها يُنشر في الجريدة الرّسميّة، ويصبح العمل به إجباريا في الدّوائر الحكوميّة والمؤسّسات المدنيّة والجامعات، ووسائل الإعلام بأنواعها، ويعاقب القانون كلّ من يخالف ذلك ولا يلتزمه، وبذلك استطاعوا أن يبعثوا الحياة في اللّغة العبريّة، وخلقوا لها كيانا بعد أن كانت أثرا من آثار التاريخ، وهم يقولون إنّ اللّغة العبريّة هي المعبّرة عن ثقافتهم وتاربخهم، والجامعة لكيانهم، والرّابطة لوحدتهم وتضامنهم.
_ علاج الضّعف في اللّغة العربيّة:
السّؤال الذي يفرض نفسه الآن، ماهو العلاج؟ إذ لا يكفي أن نعدّد أسباب الضّعف، ونحذّر من عواقبه، ثمّ لا نذكر العلاج، الذي يجب أن يؤخذ بالمسؤوليّة الكبيرة المناسبة لضخامة المشكلة اللّغويّة.
والإصلاح يكمن في:
١- إصلاح تعليم اللّغة العربيّة في مدارسنا ومعاهدنا على مختلف مستوياتها، من الرّوضة والمرحلة الإبتدائية إلى نهاية المرحلة الجامعيّة، فلو أُصلح تعليم اللّغة العربيّة، ووُضَعت له المناهج والأساليب الجيّدة والمتطوّرة، والكتب القيّمة، لاجتزنا أصعب العلاج، وقطعنا معظم طريق الإصلاح، فإذا كان واقع اللّغة العربيّة في التعليم ضعيفا ومهزوزا، لم يخرج إلّا ضعفاء في لغتهم، فالتّعليم هو المصدر الأساس الذي يزوّد كل مرافق المجتمع بالعناصر اللّازمة.
٢-إقامة دورات في اللّغة العربيّة بين الحين والآخر، لمحرّري الصّحف والمذيعين، لتقوية لغتهم وعلاج أخطائهم، وتدريبهم على السّلامة اللّغويّة بكلّ جوانبها.
٣-الإكثار من المسابقات عبر وسائل الإعلام المختلفة في علوم اللّغة العربيّة، وأنواع الكتابة من شعر وقصّة ورواية ومقالة وبحث، وتقديم الجوائز القيّمة للفائزين.
٤-استثمار (الانترنت) الذي هو وسيلة العصر في الحاضر والمستقبل، في خدمة لغتنا وتطويرها وتوصيلها إلى أكبر عدد ممكن من البشر.
٥-منع استعمال الكلمات الأجنبيّة الدّخيلة والعاميّة المتداولة، وضرورة استعمال المقابل العربيّ لها، سواء أكان ذلك في الوسائل المكتوبة أو المقروءة.
وفي الختام نشير إلى أمر مهم وضروريّ وهو دور الأهل في غرس قيَم الاعتزاز باللّغة العربيّة لدى أبنائهم، و تنمية الوعي لديهم بالمحافطة عليها، ليتقنوا لغتهم الأمّ ويعتزّوا بهويّتهم العربيّة، فتتكوّن شخصيّات عربيّة ذات كيان متميّز، مستمدّ من قيَم المجتمع العربيّ.