العالم الحر
ناصر محمد ميسر
يقف في منتصف تلك الساحة العادلة معترفًا بجريمته والفساد الذي اقترفته يداه، مدافعا عن الحق ولكنه في نفس الوقت فاسد، ولم يكن فساده وليد تلك المرحلة بل أنه سبقها بمراحل عديدة.
مشهد واحد في فيلم “ضد الحكومة” لخص فيه الفنان الراحل أحمد زكي حال مصر بشعبها ومسئوليها، مقرًا في النهاية أننا “كلنا فاسدون” بشكل أو بآخر، فتختلف الطرق والمجالات والفساد يظل واحدًا، لا استثناءً لأحد ولا محاباة لآخر، حتى الساكت عن الحق أو الفساد أقر أحمد زكي في مشهده التاريخي أنه فاسد.
“سيدي الرئيس أنا مثال للمحامي الفاسد، بل أكثر فسادًا مما تتصور، سقطت في بئر سحيق من اللامبالاة والإحساس بالعجز وقلة الحيلة، تاجرت في كل شيء في القانون والأخلاق والشرف” كانت كلمات الراحل أحمد زكي واصفًا بها الحال الذي وصل إليه كل فاسد وأصبح “قليل الحيلة” لا يملك التراجع.
ثم يتابع متحدثًا عن القضية التي جرته إلى أذيال الفساد التي تمثلت اليوم في حادثة البحيرة: “صبي من الذين حكم عليهم أن يكونوا ضمن ركاب أتوبيس الموت، رأيت فيه المستقبل الذي يحمل لنا طوق نجاة حقيقي، رأيتنا نسحقه دون أن يهتز لنا جفن نقتله ونحن متصورون أن هذه هى طبائع الأمور”.
كان وصفًا دقيقًا للراحل لما يحدث الآن من حوادث اليوم وكأنه يحيا معنا بروحه، فكل حادثة تقع نرجعها إلى القضاء والقدر وإلى “طبائع الأمور” التي لا تختلف من حكومة لأخرى.
“لابد لي أن أقف. هذه جريمة كبرى لابد أن يحاسب من تسبب فيها، وأنى لا أطلب سوى محاسبة المسؤولين الحقيقيين عن قتل اكثر من خمسين شهيدا ومصابا منهم الشاب والرجل والبنت والابن والطفل والطفلة والزوج والزوجة من خيرت ابناء مصر المحروسة لم يجنوا شيئًا سوى أنهم أبناؤنا” هذا الشعب المطحون :”
لم يكن الفنان الراحل أحمد زكي يعلم أن نبوءته ستتحق في وفاة أكثر من 34 تلميذا مصريا في حادثتين كانت آخرهم صباح اليوم، لم يفصل بينهم سوى أيام قليلة ودماء كثيرة، ولم يقترف التلاميذ أي ذنب سوى أنهم يحملون الجنسية المصرية التي أصبحت بمثابة شهادة وفاة مكتوبة وموثقة لمن يحملها.
ثم يتابع كأنه يتحدث بلسان كل مصري “الآن رأى حادثتين مروعتين راح ضحيتهم أبناؤهم ولا أحد يحاسَب ولا تحقيقات تجرى :”ليست لي سابق معرفة بالأشخاص الذين أطلب مساءلتهم. لكن لدي علاقة ومصلحة في هذا البلد، لدي مستقبل هنا أريد أن أحميه، أنا لا أدين أحدا بشكل مسبق، ولكني أطالب المسئولين عن هذه الكارثة بالمثول أمامكم فهل هذا كثير؟”.
سؤال حائر طرحه الفنان في فيلمه يأتي إلى الأذهان الآن مترددًا صداه على أثر تلك الحادثة بقوله: “أليسوا بشرًا خطائين مثلنا؟، أليسوا قابلين للحساب والعقاب مثل باقي البشر؟”.
ويختتم مشهده في ذلك الفيلم بإقرار منه تمثل الآن أن الجميع فاسدون لا استثناء لأحد: “أبناء العجز والإهمال والتردي كلنا فاسدون .. كلنا فاسدون، لا أستثنى أحدًا، حتى الصمت العاجز الموافق قليل الحيلة”.