لا تحاول أن تغير رآي أحد، ولا تقاطع متحدثا إلا لضرورة والضرورة يا صديقي نسبية للغاية وهي تنعدم كلما بعد الأشخاص الذين تحاورهم عن دائرة النفوذ واتخاذ القرار.
فما معنى أن تحاول إقناع زميلك في العمل بأن تركي آل شيخ كان نكبة على الكرة المصرية والخزانة السعودية وعائلة آل شيخ؟
وما الفائدة من إهدار نصف ساعة من وقتك غير الثمين مع صديق يصر على أن ترامب يمثل العدالة الكونية في التعامل مع العرب؟
ولماذا تنفق نصف حواراتك الأسرية على نصائح لا يبتاعها أحد، ولا يصغي إليها جالس؟
يمكنك – بدلا من ذلك – أن ترخي أحبال صوتك، وأن تخفض من نبراتك الحادة، لتسمح لبعض الهواء بالتسلل إلى المناطق المحتقنة من رئتيك، وأن تعدل جلستك، وتضع ذيلك بين فخذيك تاركا دفة الحوار للأغبياء الذين يظنون أنهم قادرون على تغيير مسار الأحداث بنفخ الأوداج ورفع العقائر.
غالبية حواراتنا على المقاهي وفي الطرقات وفي مقاعد الدرس ومع الأهل والأصدقاء لا تقيم جدارا ولا تهدم سدا، لكنها قادرة على تدمير حصوننا النفسية وإهدار ساعات ثمينة يمكن أن نقضيها في هذا الكون التافة دون إزعاج.
فإن كنت لا تصدقني – ولك بالطبع مطلق الحرية – حاول أن تستعيد شريط يوم واحد فقط إن كان لديك متسع من التسامح لتفعل، وانظر إلى الرسائل السلبية التي تلقيتها من فوق طاولة أي حوار ومن تحتها. تذكر كم مرة تغيرت جلستك وتعابير وجهك، وكم مرة اندفعت الدماء الحارة إلى وجنتيك دون مبرر. أتحداك أن تذكر مرة واحدة خرجت فيها من حوار بنفس راضية أو وجه باسم.
المال فقط يا صديقي قادر على تغيير ملامح الناس ونبرات أصواتهم والنفوذ كفيل بتغيير مواقع الأقدام وبوصلات القلوب فإن كان حظك التعس لم ينعم عليك بإحدى الراحتين، فلا تتعب نفسك في جدال عقيم يؤثر على صحتك أكثر من النيكوتين والضرائب والأسعار.
في قصة لا أذكر صاحبها، تهرب إليزابيت وينرايت من زوجها العنيد روجر بلاسينج على متن سفينة متجهة إلى ولاية ماساشوستس الأمريكية. كانت المرأة تربط عصابة فوق جرح قطعي بذراعها الأيسر لم يكن جسد المرأة البض أكثر إغراء من وجهها الغامض والذي استولى على خيال أصحاب السفينة الطيبين.
بعد نوم عميق، وإفطار شهي، قصت الكاتبة الهاربة حكايتها على طاقم تحلق حولها كذباب المائدة. لم يقدر روجر وقوف زوجته إلى جواره ليستطيع شراء تبغه وشرابه، ونسي أنها كانت تترك ولدها على غير رغبة منها وتذهب للعمل كنادلة في حانة لا يتوافد عليها إلا الباحثون عن الأجساد الرخيصة من أي لون.
لم يغضب روجر، ولم تأخذه العزة بالإثم وهو يرافق زوجته حتى الحانة ليتركها تحت رحمة السكاري والمتبذلين. لكن دماء الرجل الحارة تدفقت بغزارة حين قرأ الرجل قصة لزوجته في إحدى المجلات الرخيصة.
بدأ الرجل يقبل بنهم غير معهود على وجبات زوجته القصصية مما أسعدها كثيرا، وهي لا تدري أن وراء الأكمة ما وراءها. ذات غيظ، هجم الرجل على زوجته وألقى في وجهها أحد أعداد المجلة ناعتا إياها بأقبح الأوصاف وأحط السباب.
وعبثا حاولت المرأة أن تهدئ من ثورة روجر، رغم أنها أقسمت له بوكيد الأيمان أن القصص التي تكتبها ليست من السيرة الذاتية، ولا تمت لحياتهما الأسرية بصلة، وأنها كانت من وحي حكايات قصتها عليها فتيات الليل اللواتي كن يتوافدن كل ليلة على الحانة لبيع ما تيسر من شرفهن أو ما تبقى منه. وانتهت الحكاية بجرح قطعي بالغ فرت على إثره الروائية الذاهلة على متن أول سفينة عابرة.
لم تكمل اليزابيث رحلتها مع الطاقم المضياف، ونزلت في جورجيا، ولم يسمع عنها قبطان السفينة ولا البحارة شيئا إلا بعد ثلاثين عاما من الطواف المتقطع. توقفت السفينة قرب كابوت كوف، في نفس المدينة التي أقلت منها المرأة منذ ثلاثة عقود.
واكتشف الكابتن ورفاقه أن الشرطة قد عثرت في منزل اليزابيث على عظام نخرة تعود إلى ثلاثة عقود، وأن فريقا من أهل البلدة يظن أنها تعود لروجر الزوج، بينما يعتقد الفريق الآخر أنها تعود لإليزابيث التي قتلها زوجها حنقا ثم فر من القرية خائفا.
وعندها قرر الجمع الوقوف بين يدي رئيس الشرطة لإطلاعه على سر لا يعلمه غيرهم عن فرار الكاتبة القاتلة.
المدهش أن رئيس الشرطة أخبرهم أن المرأة قد عادت إلى زوجها، وأنهما قد انتقلا للعيش مع ولدهما في قرية بعيدة، وأن بعض أهل القرية قد حضروا جنازتيهما بالفعل.
ولما سأل قبطان السفينة رئيس الشرطة عن سر كتمانه لهذا السر وترك أهل القرية يخوضون في سيرة الزوجين دون سند من حقيقة، أخبره رئيس الشرطة هازئا أنك لا تستطيع تغيير اعتقاد من لا يؤمن إلا برأيه، وأنه لا طائل من وراء هذا على أي حال.
وحين سأل القبطان الراوي عن سر تقبل الرجل لزوجة كان يشك في سلوكها، أخبره رئيس الشرطة أن حاجة الرجل إلى المال جعلته يغمض عينيه عامدا عن روايات زوجته الخادشة للرجولة من وجهة نظرة. المال مقابل الحرية. فلتكتب إليزابيث ما يحلو لها عن معاشرة الحسناوات وتغنجهن، وعن شهوانية الرجال وممارساتهم الشاذة مقابل التبغ والشراب.
لكن الحكاية لم تنته يا صديقي بموت إليزابيث وروجر، فالحياة مكتظة برجال يغيرون مبادئهم مع المواسم وتقلبات الطقس والوجوه والمناصب ومكتظة برجال مستعدون لبيع آرائهم وشرفهم ومقدسهم من أجل إرضاء نزواتهم التافهة.
ومكتظة الحياة بأناس لا يسمعون إلا أصواتهم، ولا يقتنعون بأي شيء يخالف هواهم، ومستعدون للموت في سبيل الدفاع عن آرائهم التافهة في حوارت تافهة حول مواضيع تافهة.
فلا تتعب رأسك يا صديقي، ووفر طاقتك النفسية لصراعات تستحق مع الحياة ولقمة العيش.