اهم المقالات

إثيوبيا والعصر الجديد……

احجز مساحتك الاعلانية

 بقلم

الجنرال..هانى غنيم

رئيس المركز المصرى للدراسات والابحاث الاستراتيجيه

يُمكن القول أن إثيوبيا دخلت مرحلة جديدة من تاريخها السياسى تحت شعار “الإصلاح” مع تولى رئيس الوزراء الإثيوبي آبى أحمد مهام منصبه،  حيث تعهد “آبى أحمد” بالتغاضى عن جميع الأخطاء السابقة وفتح صفحة جديدة مع الجميع فى الداخل والخارج.

حيث أنه بعد أن شهدت إثيوبيا احتجاجات كبيرة استمرت لشهور طويلة، استطاع الائتلاف الحاكم نزع فتيل الأزمة التي كادت أن تعصف بالبلاد، وقام الائتلاف الحاكم في إثيوبيا بانتخاب الدكتور “آبى أحمد” رئيسًا جديدًا للوزراء، والذي ينحدر من عرقية أورومو -أكبر مجموعة عرقية في البلاد- والتي كانت تقود الاحتجاجات المعارضة للحكومة السابقة على مدار ثلاث سنوات، وذلك خلفاً لرئيس الوزراء السابق “هايلي مريام ديسالين”، الذي أعلن استقالته فجأة الشهر الماضي.

  • من هو “آبى أحمد”:

رئيس وزراء جمهورية إثيوبيا، عُين في 27 مارس 2018، وهو أول رئيس وزراء من عرقية أورومو، وكذلك أول رئيس وزراء مسلم في حكومة إثيوبيا.

ولد “أبى أحمد” فى أغارو بمدينة جيما في إقليم الأورومو، التحق بالجبهة الديمقراطية لشعب الأورومو -إحدى جبهات الائتلاف ضد حكم نظام “منجستو هايلى ماريام” العسكرى (1974 – 1991)- ، وشارك في الصراع المسلح عام 1990 ضد حكم نظام منغستو هيلا مريام حتى سقط بعد دخول الائتلاف إلى أديس أبابا.

تجربته العسكرية:

التحق رسمياً بقوات الدفاع الوطنى الإثيوبية (الجيش) عام 1991، فى وحدة المخابرات والاتصالات العسكرية، وتدرج بها حتى وصل رتبة عقيد عام 2007، وفى عام 1995 تم إرسال “آبى أحمد” ضمن قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام فى رواندا عقب الإبادة الجماعية التى شهدتها.

كما قاد “آبى أحمد” فريقاً استخباراتياً لاكتشاف مواقع الجيش الإرتيرى فى الجبهات الأمامية للقتال، وذلك إبان الحرب الإثيوبية الإرتيرية 1998- 2000، وفي إطار جهوده لتطوير شبكة المعلومات ببلاده، أسس وكالة أمن شبكة المعلومات الإثيوبية (إنسا) فى العام 2007، وكان المدير العام للوكالة حتى العام 2010، وبلا شك تمثل هذه التجربة العسكرية خاصة فى مجال الاستخبارات والمعلومات أحد نقاط قوته داخل المؤسسة العسكرية.

وكان نبوغه فى العمل الاستخبارى وجمع المعلومات وتحليلها، سبباً فى التحاقه بجهاز المخابرات بقوات الدفاع الإثيوبية (الجيش(.

مسيرته الأكاديمىة والتعليمىة:

لم يركن “أبى أحمد” إلى تجربته العسكرية بوحدة الاستخبارات والمعلومات العسكرية التي مثل فيها إحدى الإضافات فى مجاله، وإنما أثقلها بمؤهلات دراسية وأكاديمية، فقد حصل على درجة البكالوريوس فى هندسة الكمبيوتر من كلية “ميكرولينك لتكنولوجيا المعلومات” بأديس أبابا 2001.

ثم حصل على دبلوم الدراسات العليا المتقدمة فى تطبيقات التشفير عام 2005، من جامعة “بريتوريا” بجنوب أفريقيا، ثم ماجستير فى إدارة التغيير والتحول من جامعة غرينتش بلندن عام 2011.

بالإضافة إلى درجة الماجستير فى إدارة الأعمال 2013، ومن ثم نال درجة الدكتوراه بالتخصص نفسه عام 2017، من معهد دراسات السلام والأمن بجامعة أديس أبابا.

وقد شغل منصب رئيس مجلس إدارة جامعة “جيما” بإقليم أوروميا، فضلاً عن رئاسة “بنك أوروميا للتمويل الأصغر”، وشبكة “أوروميا” للإذاعة.

كما عمل أيضاً كعضو فى مجلس إدارة العديد من الوكالات الحكومية العاملة فى مجال الإعلام والاتصالات، مثل: “إيثيو تليكوم” وهى شبكة الاتصالات القومية بإثيوبيا، والتليفزيون الإثيوبى.

مشواره في العمل السياسي:

رغم تجوله ما بين المؤسسة العسكرية وتطوير إمكاناته العلمية والأكاديمية إلا أن “أبى أحمد” لم يغب عن الساحة السياسة، ففي عام 2010 غادر وكالة أمن شبكة المعلومات الإثيوبية (إنسا) ليتفرغ للسياسة بصورة رسمية ومباشرة، كما أن المهام الأخرى التى تولاها كان يمارسها بالإضافة إلى السياسة.

حيث بدأ “أبى أحمد” عمله السياسى التنظيمي كعضو في “الجبهة الديمقراطية لشعب أورومو”، وتدرج فيها إلى أن أصبح عضواً فى اللجنة المركزية للحزب، وعضواً فى اللجنة التنفيذية للائتلاف الحاكم فى الفترة ما بين 2010 – 2012.

وانتخب عضواً بالبرلمان الإثيوبى عن دائرته “أغارو” بمنطقة جيما فى إقليم “الأورومو” فى 2010، وشهدت منطقة جيما بضع مواجهات دينية بين المسلمين والمسيحيين خلال فترة خدمته البرلمانية، تحول بعضها إلى عنف وأسفرت عن خسائر فى الأرواح والممتلكات.

كما لعب  “آبى أحمد ” دوراً جوهرياً فى إخماد الفتنة الناجمة عن تلك الأحداث وتحقيق مصالحة تاريخية فى المنطقة، وذلك بالتعاون مع العديد من المؤسسات الدينية ورجال الدين.

وفي عام 2015 أُعيد انتخابه فى مجلس نواب الشعب الإثيوبى (البرلمان).

وفى الفترة من 2016 إلى 2017 تولى “أبى أحمد” مهام عمل وزارة العلوم والتكنولوجيا بالحكومة الفيدرالية، ثم تولى منصب مسؤول مكتب التنمية والتخطيط العمراني بإقليم “أوروميا” ثم أصبح نائب رئيس إقليم “أوروميا” في نهاية 2016، ثم ترك  كل تلك المناصب لتولي رئاسة الحزب.

  • الإصلاحات على الصعيد الداخلي: (البداية)

بدأ “آبى أحمد” مسيرته في الإصلاحات الداخلية مختلفاً عمن سبقوه من رؤساء وزراء إثيوبيا، فقد تعهد عقب أداء اليمين الدستورية بـ”إتاحة الحريات والممارسة السياسية أمام المعارضة وتطوير الاقتصاد، وكذلك اتخذ قرارات يصفها مراقبون للشأن الإثيوبى بـ”الثورية”، مما أسهم في إعادة تشكيل الخارطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما قام أيضاً بإطلاق سراح جميع السجناء السياسيين وتعزيز ثقافة المصالحة والوحدة.

حيث أصدرت إثيوبيا -في ٢٦ مايو الماضى- عفواً عن 756 سجيناً كانوا متهمين في قضايا فساد وإرهاب من بينهم القيادي المعارض نائب رئيس حركة “قنبوت سبات” “أندرجاتشا سيجي”.

وكذلك اجتمع “آبى أحمد” مع مسؤولين من جماعات المعارضة والمجتمع المدني، وعليه؛ عاد إلى إثيوبيا زعيم جبهة أورومو الديمقراطية المعارضة “لينشو ليتا” برفقة 4 من قيادات الجبهة، وذلك بعد عقدين من الزمن قضاهما في المنفى بين أوروبا وأمريكا.

وفي إطار تلك المصالحات تم إلغاء حالة الطوارئ في ٥ يونيو الماضي، حيث صادق البرلمان الإثيوبي بالأغلبية على إلغاء حالة الطوارئ التي فرضتها الحكومة منذ فبراير 2018.

وكرد فعل على ذلك أعلنت المعارضة الإثيوبية في إريتريا التخلي عن المقاومة المسلحة وتعليق أنشطتها العسكرية، وعقب ذلك وافق البرلمان على مشروع قانون قدمته الحكومة لرفع أسماء حركات مسلحة؛ وهي “قنوب سبات”، و”جبهة تحرير أرومو الديمقراطية”، و”جبهة تحرير أوجادين”، و”الجبهة الوطنية الإثيوبية” من قائمة المجموعات الإرهابية.

فقد أرجت الحكومة هذه الحركات -التي تشكل ائتلاف المعارضة الإثيوبية المسلحة- على قائمة المجموعات الإرهابية في يونيو2011.

وبالإضافة إلى ذلك فقد تمكن “آبى أحمد” من عقد تحالف سياسي بين إثنيتي الأورومو والأمهرة، مما وفر له غطاءً شعبياً ليقود البلاد بقدر من الارتياح، وهو ما وضع حد للاضطرابات الداخلية التي اندلعت في مناطق الأورومو بسبب سياسات سلفه “هايلي مريام ديسالين”.

كما أعفى “سامورا يونس” قائد الجيش و”جيتاتشو أسافا” مدير المخابرات الإثيوبية من منصبيهما، وذلك في واحدة من أبرز القرارات التى اتخذها واتسمت بالمفاجأة، وهو ما اعتبره مراقبون مؤشر على ضعف الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية التى ظلت تهيمن على المشهد السياسي في إثيوبيا منذ 1991، حيث يعتبر “سامورا وجيتاتشو” من أبرز أعضائها.

وعلى الصعيد الاقتصادي؛ أعلن “آبى أحمد” تحرير الاقتصاد الإثيوبي جزئياً، وذلك عبر خصخصة الشركات المملوكة للدولة، على أن يكون العدد الأكبر من الأسهم للحكومة، حيث يُعد التحرك نحو الخصخصة ضرورة ملحة بعد سنوات من النقص الحاد في العملات الأجنبية، وذلك رغم أن الاقتصاد الإثيوبي يأتي في مقدمة الاقتصادات الأسرع نموا بالعالم، كما أنه الأسرع نمواً على مستوى القارة الإفريقية، حسب صندوق النقد الدولي.

غير أن التوجه نحو الخصخصة قد يضر بطبيعة  بشبكات مصالح مؤسسية تنتمي غالبيتها إلى قومية “التيجراي”، خاصة في مجالات الطيران والطاقة وغيرهما.

  • الإصلاحات على الصعيد الخارجي: (ثانياً)

في إطار الإصلاحات التي يجريها “آبى أحمد” على المستوى الخارجي، تعددت الجولات الخارجية التى قام بها “آبي أحمد” خلال أول 100 يوم من حكمه، فقام بفتح قناة اتصال جديدة وإيجابية مع مصر والسودان فيما يخص ملف سد النهضة، وأزال كثيراً من سوء الفهم في المفاوضات واللقاءات الجارية منذ سنوات، وكانت الانتقالة الكبرى بزيارته لإريتريا.

حيث شملت جولاته 7 دول بدأها بزيارة جيبوتي وأخرها زيارة تاريخية للعاصمة الإريترية أسمرة أسفرت عن انتهاء عقدين من الصراع بين البلدين، وتخلل ذلك زيارات للسودان وكينيا والسعودية ومصر والإمارات.

  • زيارة “آبى أحمد” لإريتريا:

التقى الرئيس الإريترى “أسياس أفورقى” مع رئيس وزراء إثيوبيا “آبى أحمد” فى العاصمة الاريترية أسمرة مؤخراً، ويُعد ذلك أول اجتماع على هذا المستوى بين الدولتين الجارتين منذ توقف الحرب بينهما قبل حوالى ٢٠ عاما، وأظهرت اللقطات التى نقلها التليفزيون الإريترى التوافق بين الزعيمين، وخرجت الجماهير إلى الشوارع حاملة علمى البلدين ومرتدية ملابس طبعت عليها صور الزعيمين.

كما صرحت وزارة الخارجية الإثيوبية إن الزيارة تُعد جزءاً من الجهود الرامية لإعادة العلاقات إلى طبيعتها بين البلدين، وكذلك أعلن رئيس مكتب آبى أحمد “إن الزيارة تهدف إلى «تعزيز الجهود لتحقيق سلام دائم بين شعبى إثيوبيا وإريتريا”، واستكمل قائلاً “دولتينا تشتركان فى تاريخ وعلاقة لا مثيل لهما، يمكن الآن أن نتغلب على عقدين من عدم الثقة ونبدأ التحرك فى اتجاه جديد”.

حيث تأتى زيارة “آبى أحمد” للأراضى الإرتيرية بعد شهر من إعلان قبوله اتفاقية السلام مع إريتريا بشكل كامل ، وردت اريتريا بإرسال وفد رفيع المستوى إلى إثيوبيا ، واستغل “آبى أحمد” زيارة الوفد للإعلان عن عودة رحلات طيران بلاده مرة أخرى إلى إريتريا قريباً.

ويرى المراقبون أن السلام الجديد بين البلدين قد يؤدى إلى النهوض بالاقتصاد الإريتيرى المنهك بفعل الحرب، وإلى إجراء المزيد من الإصلاحات على الصعيد السياسي.

حقيقة الأزمة بين إثيوبيا وإريتريا:

في عام 1995 صعد “ميليس زيناوي” لرئاسة الحكومة، وخلال سنوات أعاد إشعال الأجواء مع إريتريا، ليتطور الأمر إلى حرب حدودية بدأت في 1998 واستمرت سنتين، وأسفرت عن آلاف الضحايا من الطرفين.

حيث تعود أزمة إثيوبيا مع إريتريا إلى الفترة التالية لانتهاء الحرب العالمية الثانية، وهزيمة دول المحور، وتوزيع تركة المستعمرات الخاضعة لإيطاليا وألمانيا بين القوى الاستعمارية الكبرى أو الحصول على استقلالها، وفي هذه المرحلة استطاعت إثيوبيا دخول الأراضي الإريترية، كما نجح الإمبراطور السابق “هيلاسلاسي” في الحصول على اعتراف من الأمم المتحدة بتبعية إريتريا لأديس أبابا في إطار منظومة فيدرالية.

على الجانب الآخر لم يقبل الإريتريون ذلك الأمر، واعتبروا الوجود الإثيوبي احتلالاً عسكرياً، وبدأوا مسيرة من الصراع لاستعادة استقلالهم الجغرافي والسياسي عن أديس أبابا، واستمرت الاشتباكات 30 سنة تقريباً عبر جهود حركة تحرير إريتريا وعدد من الحركات والتجمعات المستقلة، وانتهت بالتوصل إلى اتفاق -في العام 1991- أفضى إلى استفتاء شعبي -في العام 1993- اختار فيه الإريتريون الاستقلال.

ولكن لم يكن  الخيار الإريتري مقنعاً لأقلية التيجراي المسيطرة على الحكم في إثيوبيا، وربما جاء ذلك في ضوء قدر من التأثيرات العرقية والعقائدية، حيث يغلب المكون المسيحي على دوائر السلطة في إثيوبيا، في مقابل غلبة المكون الإسلامي على دوائر السلطة في إريتريا، بالإضافة إلى الموقع الجغرافي الحبيس للدولة الإثيوبية التي تعد السواحل الإريترية الممتدة بطول 1000 كيلو متر على البحر الأحمر نافذتها البحرية الأهم على العالم.

ولتعويض تلك الخسائر سعت إثيوبيا في الفترة التالية للاستفتاء إلى مدّ الجسور مع جيبوتي المطلة على البحر الأحمر، وبالرغم من امتلاكها منفذاً على المحيط من خلال شواطئ إقليمي أوجادين و”الهود” الصوماليين -تحتلهما أديس أبابا منذ عقود-، لكن بعد صعود “زيناوي” للسلطة أعاد التطلع إلى بسط النفوذ على إريتريا، فاقتحم الجيش الإثيوبي مثلث “بادمي” الحدودي في 1998 لتشتعل الحرب التي استمرت سنتين مرة أخرى.

وقد  أسفرت الحرب الطاحنة عن احتلال إثيوبيا للمثلث، وتوتر العلاقات بين البلدين 20 سنة متصلة؛ طوال فترة حكم “ميليس زيناوي” وكذلك في السنوات الستّ التي قضاها “هايلي مريام ديسالين” في السلطة عقب وفاة “زيناوي” بعام 2012، بينما مثّل صعود “آبي أحمد” لمنصب رئاسة الوزراء في إثيوبيا مؤشراً إيجابياً فيما يخص ملفات أديس أبابا المشتعلة، ولا سيما أنه من أغلبية الأورومو التي حرمتها أقلية التيجراي من حقوقها عقوداً طويلة.

وعلى النقيض من ذلك سعى “آبي أحمد” بشكل جاد للتهدئة في عدد من الملفات، وذلك منذ الأسابيع الأولى له في رئاسة الحكومة، وجاءت أكبر تحركاته في زيارته لإريتريا، حيث وصل “آبي أحمد” العاصمة الإريترية أسمرة والتقى الرئيس “أسياس أفورقي”، وقد أُثير خلال اللقاء كل الموضوعات والملفات العالقة بين البلدين، لتسفر الزيارة في يومها الأول عن توقيع اتفاقية سلام بين الدولتين حمل اسم “إعلان أسمرة”، وتتضمن تلك الاتفاقية تحركات جادة باتجاه تصفية الخلافات القائمة منذ عقود.

و ينص “إعلان أسمرة” على استعادة العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا والعمل على تطبيع العلاقات بين الجارتين، وكذلك استئناف تسيير الرحلات الجوية المتبادلة بين الدولتين، وأيضاً مشاركة أديس أبابا في تطوير مينائي “عصب” و”مصوع” الإريتريين المطلين على البحر الأحمر، وبالإضافة إلي فتح سفارتي البلدين واستعادة العلاقات الدبلوماسية، وتأتي الخطوة الأهم في الاستعداد لفتح الحدود البرية المشتركة لاحقاً، مع انسحاب الجيش الإثيوبي من مثلث “بادمي” المحتل.

ويُعد هذا الاتفاق خطوة هامة ومحورية في مسيرة إصلاحات “آبى أحمد”، حيث أنهى ذلك الاتفاق خلافاً دام طوال عقدين كاملين.

  • دور الإمارات في المصالحة بين إثيوبيا وإريتريا:

لم تكن هذه المصالحة لتتم بهذه الوتيرة وهذا الشكل، من دون دعم دولي وإقليمي تمثل في الإسناد الإماراتي بشكل خاص، وكذلك السعودي، ومعهما المصري من أجل البحث عن حلول سياسية واقتصادية، وتوسيع آفاق التعاون الإستراتيجي مع دول القرن الأفريقي.

حيث تشير تحركات “آبي أحمد” إلى أنه لا يسعى لإنهاء المشاكل مع دول الجوار فقط، وإنما أيضاً الاستفادة من هذه الدول لدعم التطور الاقتصادي الإثيوبي في ظل احتلالها مركزاً متقدماً بين الدول الأكثر نمواً في العالم خلال السنوات الماضية، وهو ما دفع “آبي أحمد” لاستغلال كل إمكانيات الدول العاملة بمنطقة القرن الإفريقي، سواء الأصيلة في هذه المنطقة، أو التي وضعت أقدامها من خلال استئجار موانئ وقواعد عسكرية مثل الإمارات.

وفي إطار اعتقاد الإمارات بأنّ المصالحة الإثيوبية الإريترية ستكون لها منافع جمة تساند التطلعات الإماراتية ومصالح الدول الصديقة لأبوظبي، فقد وقعت إثيوبيا اتفاق في الأول من مايو الماضي مع كلٍّ من هيئة موانئ دبي العالمية وإقليم أرض الصومال، وهو ما سمح لإثيوبيا بالاستحواذ على 19% في ميناء “بربرة” الصومالي مقابل 51% لموانئ دبي، والنسبة المتبقية لأرض الصومال، وهو ما مثَل إيجاد موضع قدم لإثيوبيا الحبيسة في مياه البحر الأحمر، وخاصةً أن إثيوبيا كانت تعتمد في معظم تجارتها الخارجية على ميناء جيبوتي، ولأنَ ميناء بربرة يبعد عن أديس أبابا نفس المسافة التي يبعدها ميناء جيبوتي، فإنَّ الاستحواذ على حصة بميناء بربرة له العديد من الفوائد لإثيوبيا، كما أعلنت الإمارات أيضاً دعم إثيوبيا باستثمارات تقدَّر بثلاثة مليارات دولار.

فمنذ عام 2015 توسعت الإمارات في هذه المنطقة بشكل لافتٍ للنظر، وكذلك قدمت العديد من الإغراءات المالية لدول إفريقية فقيرة من أجل أن يكون لها تواجد أكبر على سواحل البحر الأحمر.

وفي الآونة الأخيرة؛ اتجهت دولة الإمارات العربية المتحدة للخروج من نمط العلاقات التجارية التقليدية، وبدأت في استثمار الموانئ في عدة دول من القرن الإفريقي، وذلك ضمن السياسة الخارجية لدولة الإمارات والتي تتمثل أبرز ملامحها في توسيع التجارة ومكافحة الإرهاب واحتواء النفوذ الإقليمي الإيراني.

حيث يمكن وصف علاقات دول القرن الإفريقي مع الإمارات بالتاريخية، فبالإضافة إلى الجوار الجغرافي ارتبط الجانبان بعلاقات تجارية ممتدة لقرون طويلة، كما يعيش حالياً في دولة الإمارات مئات الآلاف من مواطني بلدان القرن الإفريقي مثل؛ إثيوبيا والصومال والسودان وجيبوتي، ويشكلون مصدر اقتصاد ضخماً لبلدانهم عبر التحويلات المالية.

علاقة الإمارات وإثيوبيا:

ارتفع إجمالي التجارة بين إثيوبيا والإمارات في العقد الماضي من 123 مليون دولار إلى 935 مليون دولار، وفي الوقت ذاته، ارتفعت صادرات إثيوبيا إلى الإمارات تسعة أضعاف، كما حققت وارداتها من الإمارات ثمانية أضعاف.

علاقة الإمارات وإريتريا:

ترجع العلاقات الإماراتية الإريترية إلى فترة الكفاح الإريتري من أجل الاستقلال، فقد دعمت الإمارت إريتريا من خلال صندوق أبو ظبي للتنمية، ولا تزال واحدة من أكبر خمس دول مانحة للمساعدات إلى إريتريا.

وفي عام 1993 افتتحت إريتريا سفارة في الإمارات العربية المتحدة، وبعد عشر سنوات افتتحت قنصلية في دبي، ومنذ ذلك الحين ازدادت التجارة بين البلدين بشكل كبير، كما أنشأت إريتريا غرفة تجارة في الإمارات بهدف تعزيز التجارة بين البلدين.

ويبرز كل ذلك نجاح الدور الإماراتي والدبلوماسية الإماراتية في تعزيز توجه الدولتين نحو المصالحة، وكذلك نجاحها في تأكيد أهمية الاستقرار والدور الذي تلعبه الشركات التجارية في تحقيق التنمية لكلا الدولتين.

  • زيارة “آبى أحمد” لمصر:

امتدت زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” لمصر على مدى ثلاث أيام، وذلك تلبيةً للدعوة الرسمية التي قدمها له الرئيس “عبد الفتاح السيسي”، وجاءت تلك الزيارة في إطار تحركات سياسية ودبلوماسية لتأسيس مرحلة جديدة من التوافق المصري الإثيوبي، تحت عنوان “الشراكة والتفاهم العميق في ضوء الحقوق التاريخية والتطلعات التنموية والمصالح المشتركة”.

وتحمل الزيارة -في توقيتها ومدتها وما شهدته من نقاشات وحوارات- دلالات مهمة فيما يخص تطور مسارات التفاوض في مسألة سد النهضة، ولعل المدخل الأول لقراءة تلك الدلالت يأتي من اختيار رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد مصر لتكون محطة متقدمة ضمن قائمة زياراته الأولى، بما يحمله هذا الترتيب والتفضيل من أبعاد تشير إلى تفاهمات عميقة ورؤى مشتركة جرت في نهر العلاقات بين القاهرة وأديس أبابا.

إذ ربما يكون في تنصيب رئيس الوزراء الآتي من خلفية مغايرة لما درجت عليه الساحة السياسية الإثيوبية خلفاً لرئيس الوزراء السابق “هايلي ماريام ديسالين” -الذي غلب التشدد على مواقفه في ملف سد النهضة- فرصة لتدشين جسر من التفاهم والصلات العميقة مع القاهرة، وهو ما يعني أيضاً أن تحولاً كبيراً قد حدث في بنية السياسة الإثيوبية بشكل دفع البرلمان لهذا الخيار الثوري، رغبةً في تجاوز مرحلة قديمة من الشحن والتصعيد وسوء التفاهم.

وبطبيعة الحال لا يمكن تجاهل أن اختيار “آبى أحمد” لأن تكون مصر واحدة من المحطات الأولى في جولاته الخارجية بعد شهرين تقريباً من تولي مهام منصبة -وهي فترة بطبعها تغلب عليها البعد عن الجولات الخارجية لحين الإحاطة بالملفات الاستراتيجية- يعني أن كثيراً من الركائز الإثيوبية القديمة في التعامل مع ملف سد النهضة ربما تم إعادة صياغتها وفق رؤية تستبعد مسببات العداء والشقاق، وتنحاز لآليات التوافق ومفاتيح الحلول السياسية والدبلوماسية، وفق تصورات عملية قائمة على توازن المصالح، وعلى وحدة المصير والشراكة الجادة في المزايا والأعباء.

وبالإضافة إلى ما تبرزه تلك الزيارة من تحولات إيجابية على صعيد رؤى وانحيازات الجانب الإثيوبي، فإنها أيضاً تشير بقوة إلى نجاح الدبلوماسية المصرية والمؤسسات السيادية والتنفيذية -التي انخرطت مؤخراً في المفاوضات- في دفع العلاقات باتجاه تعظيم قيم الحوار، ومراعاة توازن المصالح، وتأكيد أهمية المساحات المشتركة بين دول حوض النيل، بما قد يحقق التهدئة والاستقرار، وهو ما يعني استعادة مصر جانب كبير ومهم من حضورها الأفريقي، والنجاح في إقناع الأشقاء في الجنوب بأهمية دور مصر المحوري كظهير وشريك، وتأثيرها المباشر والأساسي على ملفات السياسة والأمن والسلم الاجتماعي في القارة الأفريقية، ويعني هذا البعد أننا بصدد تطور كبير في إدارة ملفات الأمن القومي، والوصول لذروة الإجادة في إدارة العلاقات الشاملة مع الشركاء، والاستفادة من مهارات المفاوض المصري.

ويُعد أبرز ما شهدته الزيارة هو المؤتمر الصحفي الذي جمع الرئيس “عبد الفتاح السيسي” برئيس الوزراء الإثيوبي، وبصفة خاصة مشهد القسم الذي ردده “آبي أحمد” بعدم الإضرار بمصر، وهو المشهد الذي يغلب عليه الطابع الإنساني، ويكشف عن صيغة في العلاقات تمزج البعد الرسمي بالخلفيات التاريخية ومشاعر المودة بين البلدين، ولكن تعتبر دلالته الأكبر أنه يحمل رمزية عن حجم التوافقات والتفاهمات التي جرت في الكواليس، ومدى النجاح الذي أحرزته قنوات الاتصال المصرية، وبالتأكيد عن قناعة أديس أبابا بالاتفاقيات الموقعة في عشرينيات وخمسينيات القرن الماضي، وأيضاً الحقوق التاريخية لمصر في نهر النيل.

حيث أن الاختلاف ليس على المبدأ الأساسي المتمثل في إقرار مصر بحق إثيوبيا في استغلال الموارد وإحداث التنمية، ولكنه يتعلق بصيغة الاستغلال الرشيد وسياسات الاستخدام العادل مع الإقرار بالحقوق الثابتة، وكان يتمحور بشكل رئيسي حول سياسات ملء السد، وليس حول السد نفسه، وبالوصول لصيغة عادلة تضمن مدّ فترة ملء خزان السد بشكل لا يؤثر على حصة مصر من المياه، تنقضي المشكلة بشكل شبه كامل، أي أن الأمر يتعلق بتفاهمات زمنية بالأساس، كما أن مصر قد أكدت في مواقف عدة دعمها لحقوق الأشقاء وجهود التنمية في دول جنوب النيل، واستعدادها للمشاركة في هذه التنمية وفق محددات تضمن مصالح كل الأطراف.

ويمثل نجاح مصر وإثيوبيا في إنهاء الخلافات -الغير حقيقية في جوهرها، والتي تسببت فيها أطراف إقليمية ودولية أرادت شحن المنطقة والوصول بها لذروة السخونة الممكنة- نجاحاً مباشراً في استغلال موارد القارة لصالح أبنائها، بعيداً عن أطماع الوافدين والمستغلين لتوتر العلاقات، فقد تأسس التعاون بين القاهرة وإثيوبيا استناداً إلى يقين حقيقي ومشترك بوحدة المصير والهدف، ويعني هذا أنه يمكن الانطلاق سريعاً نحو مشروعات تنموية عديدة، في الزراعة والصناعة والتجارة المشتركة، وهو ما يعني أيضاً قدرة أكبر على التحكم في النيل ومنابعه بما يضمن تحسين حياة الإثيوبيين، واستصلاح مزيد من الأراضي، وزيادة إنتاج إثيوبيا من الكهرباء، وإقامة شبكة للربط الكهربائي مع مصر، وفي القلب من هذا صيانة حصة مصر من المياه.

 

  • زيارة “آبى أحمد” للسودان:

وفي 2 مايو قام “آبى أحمد” بزيارة الخرطوم، والتقى بالرئيس السوداني “عمر البشير”، وبحثا القضايا السياسية والأمنية والاقتصادية واتفقا على التكامل الاقتصادي لربط الخرطوم وأديس أبابا بالطرق البرية، والسكك الحديدية، وكذلك توسيع التبادل التجاري، وفي إطار ذلك أعفى البشير عن جميع سجناء الحق العام من الإثيوبيين في السودان.

 

  • محاولة اغتيال “آبى أحمد”:

لم يكد يمضي أكثر من (80) يوماً على تنصيب “آبي أحمد” رئيساً لوزراء دولة أثيوبيا، حتى وجد نفسه في مواجهة مع الموت، بعد تعرضه لمحاولة اغتيال وسط أنصاره في “أديس أبابا” من قبل شخص ألقى قنبلة على المنصة التي كان يجلس عليها “آبي أحمد” بجوار “سعري مكونن”، مما استدعى تحرك طاقم الحراسة الخاص على وجه السرعة بغرض إجلائه من الساحة التي شهدت سقوط عدد من القتلى والجرحى.

وأطل “آبي أحمد” بعدها عبر شاشة التلفزيون الأثيوبي، وصرح في كلمته التي تلت الأحداث “إن مجموعة قامت بتدبير الحادثة بغرض إفشال المسيرة المؤيدة للإصلاح والتغيير، ووصف المجموعة بالفاشلة، وأعرب عن تعازيه لأسر الضحايا والمصابين، ومشيراً إلى أن التجمع الذي كان يخاطبه يؤكد على أن اثيوبيا ستظل شامخة بالحب والتغلب على مشاعر الكراهية والعنصرية”.

كما تمت إقالة نائب محافظ شرطة أديس أبابا بعد مرور ساعات من الحادثة، وقد شملت قائمة المحاسبة العديد من النافذين في الحكومة الإثيوبية بالإضافة إلى على الجهات الشرطية والأمنية المنوط بها تأمين مقار الاحتفال.

وختاماً؛ يمكن القول أن تحركات “آبى أحمد” ردود فعل واسعة بالداخل والخارج، وهو ما يشير إلى فلسفة مغايرة تنتهجها إثيوبيا في الفترة الأخيرة، بفضل العقلية والانحيازات التي يحملها “آبي أحمد”، الذي يتولى إدارة ملفات إثيوبيا حالياً بعقلية “رجل الإطفاء”.

حيث لم يكد يقض “آبي أحمد” أكثر من بضعة أشهر في السلط ولكنه أنجز تقارباً هاماً مع القاهرة والخرطوم، كما أنه وقع اتفاقاً تاريخياً مع أسمرة، وقبل كل هذا أعاد رسم خارطة السياسة الداخلية، ويتضح أن تلك التحولات الكبرى التي أحدثها “آبي أحمد” في ملفات السياسة والإدارة والعلاقات الخارجية لإثيوبيا تُبشر بالاقتراب من إنهاء كل الملفات العالقة؛ وفي مقدمتها ملفا إقليمي “الهود” و”أوجادين” الصوماليين، وأيضا ملف “سد النهضة” الذي شهد تعنتاً واضحاً من الحكومتين السابقتين، وإصرارا على نقض الاتفاقات السابقة الموقعة مع مصر، وعدم الإقرار بالحقوق التاريخية في مياه النيل.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى