الأدب و الأدباء

عاطف أحمد إبراهيم يكتب:”أولى فقد”

 مرّ عامان على موت زوجتي ، أذكر اليوم كأنه البارحة ، اليوم هو الذكرى الثالثة . الخميس .. الحادي عشر من ديسمبر .. الثالثة والنصف ظهرًا .. في مشفى مدينتنا . ” أستاذ محمود ، حاولنا إنقاذ الجنين ولكنها إرادة الله ” …………………………………………. ” أستاذ محمود ، لم نستطع إيقاف النزيف وزوجتك في رحمة الله ” ……………………………………………………….. ” أستاذ محمود ، أفقت أخيرًا ؟! ” ……………………………………………………………………. نزيف .. إغماء .. نزيف .. موت الجنين .. نزيف .. صياحات .. موت زوجتي .. نزيف .. سكون .. سكون .. ثم سكون …. كان الأمر سريعًا ، سريعًا حد الفقد ، كان ملك الموت على عجلة من أمره ولم يترك أية خيارات ، لم يترك فرصة لفعل شيء – أي شيء – . لأيام بعدها وددت لو … لو حدث أي شيء .. وددت بعد كل ما حدث أن يأتي أحدهم ويخبرني أنه لم يحدث شيء ؛ فقط كانت خيالات لعينة .. حلم سييء وراح لحال لسبيله .. راح ولن يعود .. لن يعود أبدًا ولكن لم يخبرني أحد ما تمنيت سماعه ولو على هامش الكذب وتركوني أصدّق ما حدث .. ببساطة كان هذا كل ما حدث ، ماتت زوجتي وهي تلد إبننا وأنا لم يسعني التدخل ومنع الأمر . الأمر بسيط كما ترى . كانت أسرع ثلاثة عشر دقيقة في حياتي وحتى الآن لا أصدق أني مررت بحياتي بهذا وبكامل وعيي ، أظن أننا في هذه الأوقات نمتص طاقة الأشياء من حولنا ، تلك الطاقة الساكنة في جوانب الزمن ونستعيرها لنعش الحدث بدون أن يحدث لقلوبنا إنشطار كما يحدث للذرات في حال فقدان الطاقة . بعدها إستطـال الزمن لطبيعته الأولى ثم إستـطـال أكثر فأكثر ، حتى أنني أظن أن الأرض أحدثت ثلاثة لفات حول نفسها ؛ لم يكن هذا يومًا كان عقدًا ربما إنقضى وربما مازال في منتصفه . ما أدركه الآن أننا لا نبكي لحظات الفقد عينها فتلك لها المشاهدون قريبون كانوا أم بعيدون ، هم وحدهم لهم البكاء وقتها ، أما الفاقدون فيبكون كل خزين البكاء دفعة واحدة كبيرة تتكرر هذه الدفعة .. تطول أحايين وتقصر أحايين أُخر ، تنتحب أحيانًا وتخرج في صمت أحيانًا أُخر ، تشتد حينًا وتمضي كدمعة واحدة حينًا آخر إلا إنها لا تنقطع تزورك على حين فجأة بشوق . الأمر الأسوأ هي الخيالات والذكريات التي تصبح رفيقة وحدتك ولا تصفح عنها لأحد ؛ ربما حتى لا يدركون مدى هشاشتك وحاجتك مهما كانوا قريبون . فقط ترتطم رأسي بيدي وبالحائط متسائلةً كيف لهذا أن يحدث ؟! هل حدث حقًا ؟! ربما لم يحدث ؟! موت زوجتي كان الفاجعة الأكبر في حياتي ؛ فاجعة خلفت ورائها كل الحزن وكل الفقد ..خلفت ورائها حفرة عميقة سوداء لا يمكنني تخطيها ، حفرة في قلبي .. حفرة في عقلى .. حفرة في نفسي ، حفرة أخشى ما أخشاه هو قاعها . سياسة الفقد منهكة إلى الحد الذي يجعلك لا تشعر بشيء .. الحد الذي يُشعِرك أن حافلة تمر فوق روحك المنهكة تدهسها ذرة بعد ذرة ببطيء ولا تموت في النهاية .

زر الذهاب إلى الأعلى