تاريخياً إنَّ الكتابة بدأت قبل فجر التاريخ مع الصُّورة، لأنَّ التَّعبيرَ كانَ في البَـدءِ بالصُّورة، وعليه فإنَّ الصُّور واللوحات المرسومة على جدار الكهوف والمعابد ما هي إلا تعبيرٌ عن الحكي، ومنها الصُورة نفسُها أو اللوحة فاللوحة ما هي إلا تعبيرٌ بصريٌ عمَّا يجيشُ بصدر الفنان، فكانت تلك الصور وهذه اللوحات تعبيراً صادقاً عمَّا يريدُ الإنسانُ قوله، ومن هنا نقول إنَّ الكتابة في عهدها الأول كانت بالرموز الصورية، وكانت الكتابة المسمارية السُّومرية مع الهيروغليفية مِــنْ أقدم الكتابات، وقد انتقلت الكتابة عبر الصورة من مرحلة اللاوعي إلى مرحلة الوعي وصولاً إلى الأبجدية التي فيها بدأ الكلام على أساس الحروف الصَّـوتية ومن ثم فقد انطلقت تلك الكتابة من جذرين أساسيين عراقي ومصري، مما يعكس التكامل الثَّقافي لحضارات الشَّرق الأدنى القديم، وكان ذلك في نهاية الألف الثَّالثة قبل الميلاد.
وكانت الكتابة في تراثنا العربي القديم فنأً راقياً تناولته الأقلام بالدرس والتحليل والنقد وهو ما سنتحدث عنه في هذه المقالة، ولكننا أولاً نلقي الضوء على القراءة التي سبقت الكتابة، فقد قال تعالى “اقرأ” وهو من أعظم أفعال اللغة العربية شأناً وأعلاها قدراً لماذا؟ لأنه فتح الآفاق للعلم والقراءة والبحث وأخرج البشرية من الظلام إلى النور، وبعد أن يقرأ الإنسان في العلم الذي أحبه ومال إليه، عليه أن يكتب تجربته عمَّا قرأ ورؤيته في ذلك، لذلك قال تعالى” ن، والقلم وما يسطرون” أي أن الله سبحانه وتعالى أقسم بالقلم الذي نُمسك به للكتابة، فنعلم من هنا جيداً قدسية القلم الذي نُمسك به فله إجلال وإعظامٌ، وليس القلم فحسب بل المدادُ الذي يكتب على الصفحات ” الحبر” فقد أقسم به المولى عزو وجل. من هنا نقول إن الكتابة من الأهمية بمكان وشرط أساسي لكي يُمسك الإنسان بالقلم ويكتب عليه أن يكون قد تشبع من القراءة، لأن الكاتب الذي تكون قراءاته كثيرة فهو كاتب جيد. من هنا لا بُـدّ وأن نفرق بين عدد من المصطلحات التي تتداخل عند الكثيرين وهي ” الكتابة، التدوين، الإنشاء، التحرير، التعبير والتحبير، والتأليف” فالتَّدوين هو التسجيل والتقييد، ومنه أخذ الغيطاني “دفاتر التدوين” ثم الإنشاء الذي يأتي بعد التدوين، وقد ارتبط التعبيربالإشاء وهو ما كان معمولاً به في المدارس قبل ذلك فكانت مادة الإنشاء، والتعبير تحمل خصوصية متميزة ترتبط بمرحلة التدريب على الكتابة وإعداد التلميذ لكي يكون قادراً على الكتابة والبحث. بينما التحرير هو الضبط والتقويم وتصويب الخطأ وإصلاحه، لأنه جاء من الشدة وإصلاح الإعوجاج في الكتابة لذلك نجد كتاباً يحررون كتباً تحت عنوان تحرير وتقديم فلان، ومن جهة أخرى جاء التحرير من الانعتاق من العبودية، وعليه لا يمكن للكاتب أن يكتب إلا وهو حرٌ، فهو يحرر ما في نفسه من أفكار ومشاعر وقال أبو هريرة: أنا أبو هريرة المحررأي المعتق من القيد ومن هنا فلا نستعمل التحرير مكان الكتابة فلكلٍ وظيفته، لذلك من الخطأ أن نقول رئيس التحرير، ولكن الصواب أن نقول رئيس الكتَّاب. والتحبير في الكلام هو تحسينه وتزيينه. والتأليف قائم على ما كل سبق، وهو أنواع: التأليف القائم على الجمع، والتأليف المنهجي، والتأليف الابتكاري الإبداعي.. من هنا وصلنا إلى مرحلة الكتابة والتي تستلزم عدداً من الشروط أولها إتقان الأداة والأداة هنا هي اللغة، وثانيها التمرس بالأساليب الدقيقة، ثالثها: الإلمام بالثقافة القديمة والحديثة، رابعها تكوين قاعدة فكرية للموضوع الذي يراد الكتابة فيه.
وعلى ذكر الكتابة نجد أن تراثنا العربي العظيم حوى أصنافاً عديدة من الكتب التي تناولت الكتابة وفن الكتابة فقد ذكر ابن خلدون في مقدمته ناصحاً لنا علينا أن نقرأ بعضاً من الكتب قد اهتمت بفن الكتابة نحو “أدب الكاتب” لابن قتيبة، وكتاب “الكامل” للمُبَـرّدِ، وكتاب “البيان والتبيين” للجاحظ، وكتاب “النوادر” لأبي علي القالي ونضيف بعضاً من الكتب أهمها كتاب “تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر” لعبدالله ابن أبي الإصبع و” صبح الأعشى” للقلقشندي و”المثلالسَّائر في أدب الكاتب والشاعر” لابن الأثير، قال:” إنَّ للكتابة شرائطَ وأركاناً أما شرائطها فهي كثيرة بينما الأركان فهي خمسة أحكام” أولها أنَّ لمن أراد أن يكتب كتاباً عليه أن يجعل مطلع هذا الكتاب به جدةٌ ورشاقةٌ فإنَّ الكاتبَ من أجاد المطلع والمقطع، ولابن الأثير في هذه الجزئية باب عنوانه “المبادئوالافتتاحات” وعلى الكاتب أن يستخدم من اللفظ ما يدخل به إلى موضوعه، لذلك قال الجاحظُ: إنَّ لابتداءالكلام فتنة وعُجباً أي لا بد وقبل أن تخط كتاباتك أن تجعل من البداية سحراً تُسحر من يقرأ لك بحيث تجعله ينظر إلى كتابك أو إلى مقالتك ولا يتركها حتى ينتهي منها. وإنما خُصَّت البدايات بالاختيار لأنها أول ما يطرق السمع من الكلام ، فإن كان الابتداء لائقاً بالمعنى الوارد توفرت الدواعي على استماعه، وقد قال الجاحظ في تأليف الكتاب:”ينبغي لمن كتب كتاباً ألَّا يكتبه إلا على أن الناس جميعاً له أعداء، وكلهمعالمٌ بالأمور، وكلهم متفرغ له. وذكر المقريزي في خططه قوله:”اعلَمْ أنَّ عَادةَ القُـدَمَاءِ مِـنْ المُعَـلِّمِين قَـدْ جَرَتْ أنْ يأتُوا بالرِّؤوسِ الثَّـمَانِيةِ قَبْل افْتِتَاحِ كُـلِّ كِتَابٍ, وهي: الغَرَضُ, العنوانُ, المَنْفَعَةُ, والمَرْتَبَةُ, وصِحةُ الكِتَـابِ, ومِنْ أي صِنَاعَةٍ هو, وكَمْ فيه مِـنْ أجزَاء, وأي أنحَاء التَّعاليمِ المُسْتَعْمَلةِ فيه”
وثانياً: لا بُـدَّ وأنَّ تكون مقدمة الكتابة في الكتاب أو المقالة مرتبطةٌ بالعمل نفسه بمعنى أنها تقدم للعمل وتعرِّف به وكما قال المقريزي ومن أي صناعة هو أي لا بد من تعريف القارئ بجنس العمل هل في الشِّعر أم في النثر أم في النقد أم غير ذلك، وثالثاً: على الكاتب حين يخرج من معنى إلى معنى عليه أن يجعل الخروج خرواًآمنا كيف ذلك؟ أي أن ينتقل من معنى إلى معنى برابطةوهو ما يسمى بـ ” التخلصوالاقتضاب” وابن الأثير له باب كامل في التخلص والاقتضاب في كتابه “المثل السائر” رابعاً أن تكون الألفاظ غير مخلولقة بكثرة الاستعمال أي أن تكون ألفاظاً مسبوكة سبكاً يظن السامع أنها غير ما سمعه من قبل وهنا يعتمد على حسن السبك، وقد قال الجاحظ :” إن المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والحضري والبدوي, والقروي والمدني وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوي. وخامساً لا يخلو الكتاب من تراثنا الثَّقافي والفكري فالقرآن الكريم والشعر العربي الجاهلي وما بعد ذلك تراث، والحكم والأمثال تراث يجب الاستناد إليه.
وعلى الكاتب أن يراعي المقام ومقتضى الحال وهو من البلاغة فلكلِّ مقامٍ مقال، ولكل حادث حديث، بمعنى إذا انتويت الدخول في موضوع بعينه فلا أحيد عنه أولاً ولا أنتقل من حديث إلى حديث أو من معنى إلى معنى إلا برابط، لذلك فقد سئل سئل بشار بن برد: ما لك تأتي بالمتفاوت في شعرك؟ قال : وما هو؟ قيل له : رأيناك تخيف الأعداء وترهبهم بمثل قولك:
إذا ما غضبنا غضبةً مُضـــــــريَّةً هتكنا حجابَ الشمسِ أو قطرَتْ دما
ورأيناك تشيد بشجاعة قومك وقوة بأسهم وبلائهم في الحروب بأسلوب رصين :
وفي الوقت نفسه تقول في جاريتك أو خادمتك ربابة هذا القول البسيط:
ربابة ربَّةُ البيـت تصب الخلَّ في الزيت
لها عشر دجاجات وديك حسـن الصوت
فأجاب بشار بقوله: إن لكلٍ موضعاً، اعلم أن هذين البيتين عند الجارية هما أحسن من “قفا نبك” عندك. ومن المعروف أن قفا نبك بداية معلقة امرئ القيس الشهيرة التي يقول فيأولها:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل & بسقط اللوى بين الدخول فحومل
أما عن الفصاحة في الكلام لا بد وأن نعي أن الفصاحة عبارة عن الألفاظ الظاهرة المعنى، المألوفة الاستعمال عند العرب، وتكون وصفاً للكلمة والكلام والمتكلم. وفصاحة الكلمة أن تخلص من تنافر الحروف وألا تكون ثقيلة على السمع ، صعبة على اللسان قول الأعرابي عن إبله “تركتها تأكل الهعخع، فالتنافر هنا من اجتماع العين مع الغين فهي بعيدة في كلام العرب كما في قول امرئ القيس في محبوبته:
غدائره مستشزِراتُ إلى العلا & تظلُّ المَداري في مثنَّى ومرسـلِ
وتنافر الكلمات وما بها من تعقيد لفظي ليس من الفصاحة في شيء كما في قول الشاعر:
وقبر حرب في مكان قفر وليس قربَ قبر حرب قبرُ
وكانت قضية النظم في اللغة من القضايا العظيمة التي ارتبطت بـ “اللفظ والمعنى” تلك القضية التي أثارها كتابٌ كبار نحو عبدالقاهر الجرجاني وابن قتيبة والجاحظ وابن طباطبا العلوي وغيرهم من الكتاب وقد اعتمد النقاد في هذه القضية على الملاءمة بين اللفظ والمعنى، وثار جدال كبير حول من يتحيز للفظ ومن يتحيز للمعنى على حساب اللفظ وأنتجت لنا تراثاً عظيماً ممثلاً في البحث عن معنى المعنى وهي القضية التي ما زلنا نبحث عنها حتى الآن من خلال “نقد النقد” الأمر الذي سيوصلنا في العصر الحاضر إلى نظرية نقدية عربية حديثة بإذن الله.
إن الكتابة سر الخلود علينا أن نكتب ونظل نكتب حتى نعيش أعماراً فوق أعمارنا وأزماناً فوق أزماننا فالجاحظ ما زال حياً بيننا رغم ذهابه إلى هناك منذ مئات السنين..وعليكم بملح الطعام وهو النحو فالنحو في الكلام كالملح في الطعام وحسن تعلم النحو يؤدي بالكاتب إلى النجاح؛ لأنه أتقن الأداة وهي اللغة وقواعد اللغة.
النحو يصلح من لسان الألكن & والمرء تكرمه إن لم يلحن
فإذا طلبت من العلوم أجلــها & فأجلها عندي مقيــــم الألسن