منذ أكثر من عشرين عاما قرأت كتابا يتحدث عن بعض أسرار حرب أكتوبر العسكرية , وكان للكاتب محمود فوزي , وحقيقة شدني جدا ما قرأت , ولو أنني أعرف أن أي كتاب عندما يتحدث عن وقائع تاريخية أو عسكرية فأنه يكون صادق حيث لا يمكن تزييف الواقع العسكري , ولكن عندما يكون الحديث عن التاريخ , فقد تتدخل ميول الكاتب أو قناعاته الشخصية أو ميوله العاطفيه , فيرفع شأن من يشاء ويجمل الأخطاء منه , ويخفض من يشاء ويشوه المحسنات منه .
ولكن في المجمل الكتاب كان قيما وعلمت منه أشياء كثيرة جدا , تختلف عن تلك التي نقرأها من جمل محفوظة , تقول في خلال ست ساعات حطمنا أسطورة العدو وإن كان ذلك حقيقة حدثت بالفعل .
إن حرب أكتوبر لم تكن حربا عادية , لأنه لم يكن هناك تكافوء في الفرص ولا العدة ولا العتاد .
ولكنها أظهرت الجندي المصري المقاتل , وأظهرت كيف أن من له حق يعرف كيف يسترده .
حرب أكتوبر حوت قصص لو كان يحكيها شخص لآخر لظن أنه يحكي له أساطير , مثل أساطير الأسلاف أو يحكي له فيلمعن المستقبل من الخيال العلمي .
كان عندنا عزيمة قوية , وروح معنوية عالية رغم الهزيمة , وكان عندنا إصرار علي رد الكرامة وسحق أسطورة الجيش الذي فعل كل شئ من أجل أن يظل في الأراضي المصرية .
ولكن قريحة المصري وذكاؤه كان أكبر من كل تكتيك وكل إحتراز . الساتر الترابي الذي يحتمي خلفه العدو والذي علي علو ثلاثين مترا , فعلا لا تستطيع دانه المدفع ولا االطائرات أن تحطمه , فإخترع المصري الإنسان أن يتم إختراقه بخراطيم المياه القوية والتي تسحب الماء من قناة السويس , وعندما سأل الرئيس السوفيتي الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عن سبب إحتياجه لتلك الخراطيم الكبيرة والقوية , لم يقل له لنحارب بها قال له لنسقي الزرع , فاستغرب الرئيس السوفيتي من عقلية المصريين التي تريد أن تسقي الزرع بتلك القوز الهائلة من المياة . كانت السرية هي أساس كل ما في الحرب .
وعندما إختاروا لغة للتخاطب , وكانوا يعلمون أن إسرائيل تتجسس علينا لتعرف كيف نخطط للحرب أو لنيتنا في شن حرب أم لا ؟ أختاروا لغة أهل النوبة والتي لا تفهمها إسرائيل مطلقا .
إن حرب أكتوبر كان كل جندي فيها بطل بمفرده , وبطولته تحكي قصة كاملة . كان الجندي يحمل حقيقة روحه فوق كفه . وكان المصري المواطن بطلا أيضا , وإن كان خارج حلبة المعركة .
لم تسجل أقسام الشرطة حالة سرقة واحده أثناء الحرب , كان الشعب في خلال فترة حروب الإستنزاف يعاني من عدم وجود الصابون والزيت والشاي والسكر والمواد الأساسية ,.حيث كانت أغلب ميزانية الدولة موجهه للقوات المسلحة .
ولم يكن الشعب يقول لماذا نعاني , ولم يقل للجنود أنتم منهزمون ولم يحبطوهم , بالعكس كانوا يكتبون علي الحوائط بأسلوبهم البسيط ( حنحارب أي سنحارب ) .
كان كل مصري جندي داخل الوطن , وكل أم أيضا كانت متطوعة , حتي و إن لم تذهب للمستشفيات .
كانت النساء تشارك وتشد الأزر . وعندما قامت الحرب هرعت النساء من جميع طبقات الشعب للعمل كممرضات لخدمة الجرحي . لم يكن هناك فرق بين مدرسة وطبيبة وربة منزل ,وبائعة خضار .
كل الشعب كان يدا واحدة .
إنه من الظلم أن ينسب نجاح حرب أكتوبر لرئيس واحد ولا للقائد الأعلي للقوات المسلحة , نصر حرب أكتوبر ينسب للرئيس الراحل جمال والسادات وحسني , وكل قائد خطط منذ أن وطأت قدم إسرائيل أرضنا . وكل سائق كان يمد الجيش بالطعام وكل صحفي كان بأرض المعركة ينقل لنا الأخبار , وكل طبيب ذهب للجبهه لمعالجة المصابين وبالطبع لكل جندي إستشهد ودفع دمه من أجل الوطن .
إن مصر وعلم مصر غالي جدا ,ربما لا يشعر الشباب الحاليون بقيمة الوطن . أو ربما يشعرون ولكن ليس بنفس القدر الذي كان يشعره الشخص المسلوب منه أرضه والمغتصب جزء من وطنه .
إننا فعلا كبدنا العدو خسائر كثيرة , ولذلك يجب أن ننتبه , أن هذا العدو حربنا معه لم ولن تنتهي , ما زال يبث في بعض رؤؤس الشباب أن نصر أكتوبر كان هينا بل لم يكن نصرا من الأساس .
بالرغم أنني قرأت أنه عندما حاصرت إسرائيل جنودنا في الثغرة , وعندما كشفت أمريكا لها ذلك , وكان خيار الرئيس الراحل السادات , إما وقف إطلاق النار كما طلبت أمريكا أو الإستمرار وإستشهاد الجيش الثالث الميداني المحاصر كله , وأذكر أن القائد الجمسي ذهب للسادات في أسوان وطلب السادات منه , وقف إطلاق النار والرجوع بالرغم كوننا كنا علي مشارف تل ابيب ,
عندما أقرأ ذلك لا ألوم أحد , ولا أحاكم أحد حتي في شعوري , عن فعل لا أدري كيف كان ينظر له من وجهه نظره , فربما لم يرد استشهاد عدد أكبر من المصريين , خاصة وأن أخاه الشاب الشهيد عصمت إستشهد في ذات الحرب , ولا يدري ولا يشعر بالجرح إلا من جرح بنفس الطريقة .
لا أريد الخوض في الحديث عن إستراتيجية الحرب , لأنني لا أفهمها جيدا .
ولكن كل ما اريد قوله , أن حرب أكتوبر كانت هي الشهادة لكل الشعب المصري , والتي تقول بأنه يستحق الحياة , وأنه يستحق أن يرفع رأسه , وأنه يستحق إحترام العالم .
فإن ذكري نصر أكتوبر يحمل ذكري تضحيات كبيرة . تضحيات من أجل الوطن , ومن أجل المبدأ , ومن أجل الدين نصر أكتوبر كان معجزة بكل المقاييس , لأنه كان يحتاج تخطيطا وتكتيكا عسكريا , ضد أسطورة تساعدها أكبر قوة عظمي تمتلك ترسانة أسلحة .
حقا الإنسان المصري هو رجل المعجزة وإمرأة الأزمات , فذلك فعلا موجود بدم المصريين ., ونحن نحتاج الآن لأن نعود إلي الصفات التي كانت موجوده بنا , كنا يدا واحدة , كان يساند بعضنا البعض , كنا نعمل قدر إستطاعتنا . كان لا يتحدث أحد عن أحد في غيبته , كنا أجمل بكثير مما نحن عليه الآن . فهل يوجد أمل ؟؟
وكل عام وانتم بخير