ابنة الامل
كان ينتظر بصمت وحزن دفين اتصالا من بلاده لعل خبرا يطمئن قلبه ويهدئ من خوفه و قلقه على والدته التي ترقد في المشفى في قسم العناية المشددة منذ اسبوع وهو يردد “لا حول ولا قوة له الا بالله “و لا يملك الا القليل ليفعله فبات كالمشلول لا يملك سوى السؤال والاطمئنان عنها عبر الاتصال والدعاء لها بالشفاء لا يفارق شفتيه ” .
ويمر شريط الذكريات الحزين في عقله دفعة واحدة فتلهث روحه علها تخبئ في طياتها رشفه أمل قريب يعتنق دروب المسافات البعيد .
كم اشتاق لها كم وكم يحلم بتلك اليدين الحنونتين الطاهرتين لتداعب شعر طفلته التي لم تراها .
تلك الطفلة التي كحلت عيونه وعيون والدتها في بلاد الغربة بعد أن فقدا أطفالهم جميعا ولم يتبقى لهم أحد منهم على قيد الحياة .
ثلاثة أطفال أصغرهم كان عمره سنة قتلوا في يوم واحد بقذيفة غدر وحقد حولت حياة العائلة كلها الى جحيم . فلا الحزن ينفع ولا الالم ولا الغضب قادر على تغيير ما حصل , وحده ذكر الله كان ملجأ له ليمده بالصبر والقوة لتحمل هذا المصاب الذي ألم به وبكل أفراد العائلة جميعا . لقد قال كلمته وقتها ..
كلمته التي يكللها الايمان بقضاء الله وقدره خيره وشره ومثل كل مواطن عانى في وطنه مرارة الحرب ونكباتها : ” لقد رحل أولادي وهم الان في الجنة كل واحد فيهم طير من طيور الجنة .
استودعتهم عند رب رحيم . فهو أحن عليهم من عالم ملئ بالكراهية والحقد . عالم لم يبقي للخير والحب وجهة نظر”. لقد رحل من كان يمني النفس بتحمل كل أعباء الحياة من أجلهم .
فبعد أن خسر بيته بسبب القذائف التي انهالت على منطقتهم هرب الى منطقة اخته والتجأ في بيتها لعله يحتمي هو وزوجته وأطفاله الثلاث ولكن للأسف وقعت الكارثة وأنهت حياة ثلاث أطفال بلمحة بصر وكأن شيئا لم يكن وكأنه لم تكن صيحاتهم وضحكهم يعج بالمكان فتزهو معه النفس وتبتهج , و كأنه لم يكن يعود من عمله مرهقا متعبا ليحضنهم وينسى معه وجع اليوم وتعبه .
وكأنه لم يكن يخبئ في عينه دمعه وهو يرى فرحتهم عندما يشتري لهم ثياب العيد . كأنه وكأنه لم تكن … هناك حياة … هناك أمل .
ولكن كما قال له بعض الناس “المكتوب ليس له من مهرب” وكما قالوا له اصبر واحتمل وتذكر “قدر الله وما شاء فعل” ..
للحظات تذكر جيدا كل التفاصيل بكل حرقتها وثقلها التي استوطنت الروح و كل الحزن الذي لم يغادر جسده النحيل المثقل بالهموم ويردد دون أن يشعر يصوت خافت و بحشرجة وأنين : ” نعم .. نعم قدر الله وما شاء فعل ونعم بالله .. .
فقدرنا يكتبه الله لنا ونحن مؤمنين صابرين ولا اعتراض على حكمة الله تعالى , فالله يمد الظالمين مدا ,وهو على كل شيء قدير وهو القادر على معاقبة المجرمين عاجلا أم آجلا وأنا استودعت أولادي عند من لا تضيع معه الودائع “.
كانت الايام تمر ثقيلة عليه بعد خسارة أطفاله بسبب الحرب وكانت أمه تشجعه وتقول له : ” لله ما أعطى ولله ما أخذ يا بني .
وإنا لله وإنا اليه راجعون . يا بني ليس لك حل لتستمر في هذه الحياة بحب وأمل إلا أن تحب روحا جديدا للحياة . عليك ان تنجب لعل الله يعوضك خسارتك لأطفالك. أتظن يا بني أنني لا أتعذب لعذابك ولا تحترق روحي يوميا لفقدانهم .
والله يا بني لن ترتاح عيوني ويطمئن قلبي إلا برؤية طفل جديد لك .. صبي كان أم بنت لا يهم ,المهم أضعه في حضني ويقول لي يا جدتي كم اشتقت لرؤيتك ولأداعب شعره وأغني له لينام ”
ومر الامس سريعا أمام عينه وهو يسير مغادرا بلاده مودعا والدته ليزيدها حزنا فوق حزنها وحسرة فوق حسرة , فها هم الاولاد والأحفاد يغادرونها واحدا تلو الآخر و كغيرهم تفرقوا في بلاد الغربة هربا من حرب مجنونه لم ترحم لا كبير ولا صغير
لم يكن الامر سهلا عليها فهي التي لم تتخيل ولو للحظة واحدة ان يأتي يوم عليها لتدفعهم هي بنفسها الى الهجرة والسفر . فلوعة الام من الفقدان بسبب الحرب يدفعها الى تحمل سفر وغربة اولادها وتفرقهم عنها ويكفيها أن تطمئن عنهم ولو من بعيد وعبر الاتصال فقط .
كلاجئ لم يمضي على وجوده في بلاد العم سام وقتا طويلا لم يتمكن من الحصول على جواز سفر يمكنه من العودة لرؤية والدته وهو أمر صعب جدا وينطوي على مخاطر كبيرة في حال عودته لوطنه بعد كل المعاناة التي تعرضوا لها خلال رحلة اللجوء
كان ينتظر ويتخيل هذه اللحظة بفارغ الصبر لحظه لقاءه بوالدته ويعد الايام يوما يعد يوم ليتمكن من العودة لأرض الوطن .
كان يتمنى أن يأتي اليوم ليرى هذا المشهد الجميل عندما تحتضن والدته ابنته الصغيرة التي حلمت برؤيتها بين ذراعيها لتشمها وتقول لها ” شكرا لله الذي أمد بعمري لأرى ابنة الامل من جديد ..الله يحميكي يا غالية يا بنت الغوالي..”
فمن حملت همه وكانت منبع القوة التي يستمد منها الصبر والتحمل ومن تراكمت عليها أحزان اللجوء وفقدان الوطن ومن عاشت التغريبة مرتان ومن حلمت بالغد الافضل لم يعد بمقدورها رؤية ….ابنة الامل .ابنة الامل