أخبار عاجلة

عبد الرزاق أحمد الشاعر يكتب , إن فى التاريخ لعبرة

احجز مساحتك الاعلانية

القاهرة , أ ف ق

إن في التاريخ لعبرة157067_605983822762735_910639512_nimage1

يحكي التاريخ سيره دون أن يدلك بأطراف أصابعه الخشنةفروات رؤوسنا، ولا يهتم إن أسدلت قصصه ستائر جفونناالتي أضناها السهر. يحكي التاريخ دون أن ينتظر شهقةالمفاجأة أو زفرة اليأس من حلوقنا اليابسة، ويمر دون أنيلتفت إلى وجوهنا المكفهرة أو جباهنا المقطبة. يحكي التاريخلأن القص صنعته، ولا يهتم كثيرا إن استوعبنا الدرس، لأنهيكرره في أوراقه الصفراء المغضنة مرة ومرة وألف مرة.ودرسنا اليوم من ألمانيا التي سبقتنا إلى التضخم بآلافالفراسخ ثم عادت من هناك أقوى آلاف المرات.

لم تقتف ألمانيا أثر الأعداء، فلجأت على عكس اللدود فرنساإلى سياسة الاقتراض لتغطية نفقات الحرب العالمية الأولىبالكامل. كان فيلهلم الثاني واثقا من النصر، وكان يعول علىمغانم الحرب لتغطية ديونه، ولم يستمع إلى نصيحة الخبيرالاقتصادي الشهير جالمر شاخت الذي حذره من انهيارمحتمل للعملة المحلية (المارك). ولما جاءت الحرب بما لميشته فيلهلم،  لجأ إلى حلول اقتصادية عاجزة أفقدت المارك ماتبقى لديه من عافية. 

كان الدولار قبل الحرب يساوي 4.2 ماركا، ثم ارتفع ليعادل7.9 ماركا بعد اندلاعها. وفي أعقاب الحرب، وبعد أنخرجت ألمانيا من ساحات المعارك تجر أذيال النكسة، لميستطع فيلهلم أن يسدد ديونه التي تجاوزت حدود المعقول،فلجأ إلى حيلة العاجز بالإفراط في طباعة أوراق نقدية لا تجدلها من الموارد ظهيرا. وبعد معاهدة فرساي، ترنح المارك،وأصبح الدولار بثمانية وأربعين ورقة ألمانية لا قيمة لها،وذلك بحلول 1919 ميلادية. 

وظل المارك يتراجع أمام الدولار حتى صارت الورقةالخضراء بتسعين ماركا عام 1921، ثم انهار المارك تماماليشتري الدولار ثلاثمئة وثلاثين ورقة منه. كانت الديونالمستحقة على ألمانيا حينها خمسين مليارا. وكان على ألمانياتسديد ديونها بالعملة الصعبة، وهو ما اضطر الحكومة الفاشلةإلى طباعة المزيد من الأوراق التافهة لتتمكن من شراءالبنكنوت الأمريكي، وهو ما عجل بدخول المارك غرفةإنعاش وهو أقرب إلى الموت منه إلى الحياة.

وهكذا، ظلت ألمانيا تدور في فلك خبيث، من طباعة أوراقنقدية لا قيمة لها إلى شراء عملة غير موجودة إلا في أسواقهاالسوداء، حتى حدث التضخم الجامح الذي لم تجد معه كافةالجراحات الاستئصالية المعقدة. وهكذا، وجد الألماني نفسهعلى رصيف واقع مؤلم، لا تطعمه الأناشيد الحماسية ولاتسقيه خطابات القائد اللاهبة. فجأة، أدرك المواطن المسكينأن محفظته المنتفخة عاجزة عن تحقيق الحد الأدنى من الأمانالمادي، فضلا عن الرخاء الذي لطالما وعد به الإمبراطورفيلهلم. كان فقراء الألمان ينامون فوق أسرة من بنكنوت،لكنهم لم يكونوا قادرين على شراء رغيف خبز يهدئ منثورات بطون أطفالهم الجوعى. 

ولما عجزت الحكومة الألمانية عن تسديد ديونها نقدا،اضطرت إلى استخدام منتجاتها المحلية مثل الفحم بديلاللورق، لكن ذلك كله لم يجد نفعا، مما حدا بفرنسا وبلجيكا إلىاحتلال الروهر، وهي منطقة صناعية في غرب ألمانيالضمان مستحقاتهما. وما زاد الطين اللازب بلة، قيام بعضالمواطنين الألمان في المنطقة الصناعية بالإضراب الجماعيعن العمل، مما سبب شللا تاما في مفاصل الاقتصاد الألماني،اضطرت معه الحكومة إلى طباعة مزيد من الأوراق المالية،وهو ما أدى إلى وفاة حتمية للمارك، وانتشار نظام المقايضةلإتمام صفقات البيع والشراء بين المواطنين. 

كانت فرنسا عدو ألمانيا اللدود وقتها أكثر حكمة، فلم تشتط فيثقتها بخوذات جنودها الصفر، ولم تلجأ إلى صناديق نقد أولدول صديقة مادة يدها، وفضلت فرض ضرائب على الدخللتغطي نفقات الحرب، ولما خرجت من أتون المعركةمنتصرة، استطاعت أن تحقق رخاء غير مكذوب لم تعد به،لكنها كانت تخطط له في صمت. صحيح أن انتصار الفرنكعلى المارك لم يكن نهاية المطاف، إلا أنه كلف المواطنالألماني عقودا من الهوان كان باستطاعة حكومته تجنيبه إياهلو أنها اتبعت سياسة نقدية أكثر رشدا. 

تتكرر دروس التاريخ، لكنها ليست أبدا مملة. لكن الكثيرينممن يهمهم الأمر قد انشغلوا ببرامج التوك شو والمسلسلاتالهندية والتركية عن تقليب وجوههم في سماوات الوعي،وتركوا مصائرهم نهبا للوساوس والمخاوف والقيل والقال.شغلتنا أموالنا وأهلونا عن النظر إلى الخلف أو التطلع نحو أيمستقبل، فصرنا مجرد تروس في آلة جهنمية تقودنا جميعانحو هلاك محتمل وشيك. وتبقى خلفية المشهد ترسم حلولاللمخلصين الباحثين عن الشعاع في النفق، لكن أين هم؟

عبد الرازق أحمد الشاعر

Shaer129 @me.com 

رئيس التحرير

المشرف العام على موقع العالم الحر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى