بقلم / اكرم هلال
وفاة اخر أبطال القاهرة 30 – انتاج 1966 اليوم يسدل الستار على البطل قبل الأخير لفيلم القاهرة 30 ليترك لنا متعة المشاهدة مع البطل الرابع ولأخير وما يدعى نفسة السلطة الرابعة الصحافة بفروعها.
توفى اليوم “على طة” او (عبد العزيز ميكوي ) الذى لم يعمل كثيرًا، لكن دوره لا يزال عالقًا بالأذهان، فهو من قام بدور علي طه، تلك الشخصية المحورية في قصة معقدة حفرت تاريخها في السينما المصرية باسم «القاهرة 30»،
لم يلبث زميله في الفيلم الكلاسيكي، حمدي أحمد، أن رحل عن عالمنا حتى لحقت به روحه، صباح اليوم الإثنين، 18 يناير 2016، ليكون وداعًا أخيرًا لرجل ربما غاب عن الشاشة 14 عامًا إلا أن أدواره تبقى شاهدة على براعته وموهبته الفنية الرائعة. فهو السياسي التقدمي الذي يؤمن بالثورة الاشتراكية لتغيير المجتمع بعد ان “عافر” مع البقاء بعد ” محجوب عبدالدايم” الفنان الكبير (حمدى احمد) زميل الكفاح بعد أن تركتهم (احسان شحاتة ) للتتفانى بجسدها لخدمة (محظية) وكيل الوزارة . ليبقى معنا البطل الرابع أحمد بدير الذي يرى أن الشهرة هي الحل الأمثل للهروب من دائرة الفقر، فيختار الصحافة مطيته ليلعب على كل الاحبال. يبدو ان نجيب محفوظ لم يكن يكتب القاهرة 30 فقط بل كان يكتب القاهرة 40- 50 – 60 – 70 – 80 – 2000 – 2010 وربما 2020
تمعن الكاتب الكبير فى اختيار الشخصيات والأسماء والمواقف فترك طلبته الثلاثة يعيشون في منزل واحد، تجمعهم الظروف ذاتها ويعتصرهم الفقر والحاجة والعوز، ولكن نظرتهم حول الحياة تختلف تماما،
على طه شاب مثالي يؤمن بمثل ومبادئ الاشتراكية ويدعو إلى الثورة على الملكية وفساد الحكومة وارتباطها بالإنجليز والانحطاط الأخلاقي،
وأحمد بدير “ابراهيم عبدالمنعم” الذي يرى أن الشهرة هي الحل الأمثل للهروب من دائرة الفقر،
ومحجوب عبد الدايم، الذي يمثل البعد الميكافيللي “الغاية تبرر الوسيلة” .
ثم يتوغل في نفوس أبطال الفيلم أكثر، على طه يحب إحسان والتي جعلها المخرج مثال واضح وصريح لمصر في فترة الثلاثينيات، الجمال الدائم الذي لا يبهت، والظروف الاقتصادية الصعبة بفقر الأسرة وعدد الأبناء الكبير. والجميع يتضور جوعا إلى هذا الجمال،
حتى محجوب عبد الدايم الفقير النكرة الذى يكن الحسد والغيرة للعلاقة بين على طه وإحسان، فيجد وظيفة ميري توفر له زوجة ميرى أيضا لأنها ليست مخصصة له وحده، فالمنفعة هنا عامة له ولرئيسه فى العمل الذى يدفع له!!
ويأتي دور وكيل وزارة المعارف قاسم بك فهمى المسئول عن بث القيم الروحية والأخلاقية للمجتمع، لم نر فيه سوى خائن لهذه القيم مستجيبا لرغباته فقط، وكأنه يطبق نظام الخصخصة لحسابه الخاص ويستبيح زوجة مرؤوسه لنفسه مقابل أجر لا يتحمله هو، بل خزينة الوزارة. فيدور حول إحسان بسيارته الفاخرة وهو يراهن على وسامته وفخامته ومنصبه الرفيع وثرائه البالغ، وبالفعل ينجح في رهانه ويحصل على إحسان بكامل إرادتها، فوزير المعارف العمومية مسئول تربية النشئ على الفضيلة ومكارم الأخلاق،تم مكافأته على فساده بالترقى من وكيل وزارة إلى وزير ولم يضع أى اعتبار لمسئوليات وظيفته وإنما اقتصرت مخاوفه على علم زوجته بتصرفاته. فرغم كونة وزير قد استباح لنفسه النيل من كرامة بلده (مصر)
وها هى احسان شحاته الفقيرة المدمرة التى كانت تحلم بالغنى والرقى، ولكنها تحت ضغط أولياء أمورها باعت جسدها وروحها للشيطان، فى الأول رضخت لوالديها وإستجابت لرغبات الرجل الغنى الذى حاول خصخصتها لنفسه فقط، ولما وجد انه من الصعب الاستمرار فى هذا المسلسل، رأى أن يدفع لمستثمر محلى من الباطن ويشترى هذا البديل “البضاعة” باسمه. وبالتالى يستفيد هو بالرغبة الأولى، وان تبقى نزر رغبة أوبعض الميل، فيكون للمستثمر المحلى (محجوب عبد الدايم).
لم ينكر الكاتب استجابة (احسان) ” مصر ” لصفقة دنيئة أبعدتها عن حبها مستندة الى ابلاغ (على ) لها أن الطريق أمامه طويل حتى يستطيع أن يتزوجها، ولابد أن تنصلح ألأوضاع أولا!.. ليبقى هو الوحيد حتى النهاية الذى دافع عن حبه لوطنه وظل وفيا لمصر.
والأب يغازلها كأنه يقودها إلى طريق الخطيئة حول السيارة التي تنتظرها كل يوم وباب السعد والهنا مع الرجل الذي يكرمه ويمنحه بقشيشا هائلا كلما اشترى منه علبة سجائر أو ثقاب.. والأم تخبرها دائماً بصعوبة الحياة والفقر وعدد الأبناء المتزايد، وتحكي لها عن العوالم الخرافية من الذهب والماس إذا ( شغلت عقلها وسمعت الكلام)
في الواقع لم تختر “مصر” أقصد (إحسان) طريقها بنفسها، فهي طفلة يمنيها الجميع بالجنة فقط إذا تخلت عن على طه حبها، وأسلمت جسدها لوكيل الوزارة صاحب السمو والرفعة.
ثم نأتي إلى (محجوب عبد الدايم) صاحب أشهر (طظ) في السينما المصرية، فظل يردد هذه الكلمة كلما قست الظروف عليه وكأنه يوقن أن التخلي عن المبادئ وانتهاز الفرص سيحل أي مشكلة وسيفتح له باب الصعود الصاروخي، ويحاول التقرب من ابن بلده موظف الحكومة الكبير، والذي يطلعه على اسم راقصة قد تأتيه بالوظيفة إذا قدم لها رشوة مناسبة، ولكنه لم يجد المال اللازم لهذا، فتأتيه الفرصة عن طريق بلدياته مرة أخرى، بالحصول على الوظيفة وبالتنازل عن كرامته للعمل في الحكومة وفي الرذيلة في آن واحد، وذلك بالزواج من (محظية) وكيل الوزارة، ويأتي مشهد قرني “التيس” والذي عبر به صلاح أبو سيف عن الوظيفة الحقيقية لمحجوب عبد الدايم، وصور الحوار النفسي لعبد الدايم، فهو قد حصل على الوظيفة وحقق حلمه السابق بالارتباط بإحسان ولكن عليه فقط أن يتنازل عن كرامته لبعض الوقت، وانتهى هذا الحوار كالمعتاد بطظ كبير ويقبل بالصفقة ككل، والتي حولته في النهاية إلى “قواد”، وحولت إحسان إلى هيئة قطاع عام يستفيد منها الجميع على السواء، محجوب عبد الدايم بترقيه الوظيفي المتتالي، ووكيل الوزارة الذي يملي عليها مواعيده للقاء الجنسي، وعائلة إحسان التي روتهم بالمال، وتصر على أن يكمل إخوتها تعليمهم كأخر عزاء للنفس على دورها التي تقوم به. ويواصل محجوب عبد الدايم ترقيه الوظيفي وتخليه عن مبادئه، فوكيل الوزارة أصبح وزيرا للمعارف مع التغيير الوزاري، وتأتيه إحسان بوظيفة سكرتير مكتب الوزير مع أول لقاء جنسي مع عشيقها، وعلى الرغم من تضخم مرتبه، إلا أنه يرسل خطاب إلى أسرته الفقير يخبرهم فيه أن ظروفه قاسية ولازال يبحث عن وظيفة، ثم يتخلى عن ابن بلده والذي ساعده وقدم له الزوجة والوظيفة..
ثم يتنقل الفيلم إلى المقارنة بين الثلاث أصدقاء، أحمد بدير الذى يصبح صحفي مرموق وهو يلعب على جميع الأطراف، ومحجوب عبد الدايم الذي افتضح أمره ويعرف أبوه بما يحدث ويعلن تبرأه منه ووفاته وهو على قيد الحياة، ولكن محجوب يصر على ( طظه) ويعلن أنه سيربح الرهان هو وإحسان على الرغم من افتضاح أمر الوزير أيضا، والفضيحة التي سببتها زوجة الوزير لهما في العمارة،
أما على طه فقد كتب عليه كالعادة أن يموت شهيد الحرية والأوضاع، والتساؤل يطرح نفسه، هل يموت الشريف ويربح الطغاة؟.. هل يعيش الفساد والغش ويموت صاحب المبادئ؟.
فمن سينتصر فى صراع (الفقر- الفكر – الجنس – البروبجندا – المال والسلطة)
احسان شحاتة التى قتلت أو انتحرت ” سعاد حسنى” لا أحد يعلم أم محجوب عبدالدايم الذى عافر كثير مصطحبا كلمة طظ ولكنة فى الفيلم لم يتضح لنا انه حصل على كل شى وفى الحقيقة مات دون أن يكون أشهر نجوم مصر
أم “على طة ” عبدالعزيز المكيوى” الذى رحل من داخل دار مسنين تكفلها له نقابة الممثلين بعد ان تداولتة الصحف والمواقع الاجتماعية على أنه متشرد وكأنه يصف حالة الأشتراكية بتجسيد الدور على مدار 70 عاما كاملة
ليبقى الجميل أحمد بدير أمد الله عمره الذى جسد شخصية الصحفى (عبد المنعم إبراهيم) الذي يحترف الصحافة، وهو غير راض عن وضعه المعيشي والاجتماعي والسياسي، إلا أنه يؤمن بأنه لن يستطيع التأثير في المجتمع وتغييره ما لم يحصل على المال الذي يساعده في التواجد ليبقى الدور مازال مفتوحاً هل سيغلق بعد عمر طويل بنظافة الصحافة والاعلام أم سيكمل القاهرة 30 الأحداث.
فى يوم وفاة على طة لا يسعنا الا أن نطلب له الرحمة ونحن نشكره على مشاركتة فى فيلم القاهرة 30 الذى ابهرنا فى مشهد النهاية بأملة وثقتة بحتمية الثورة وقيامها، نرى الشاب الثوري وهو يطوف بين الناس وهم يخرجون من المسجد بعد صلاة الجمعة، وهو يلقى منشوراته في الهواء لتبدو وكأنها طيور الحمام الأبيض التي ترمز للسلام.
لن ننسى محجوب عبدالدايم فى مشهد قرني التيس، أو مشهد التوتر أثناء التغيير الوزاري أو مشهد الأب عندما يعرف أن ابنه يدعي الفقر ومتزوج من عشيقة رئيسه في نفس الوقت. لن ننسى في هذا الفيلم، أننا أمام نماذج بشرية تمثل شرائح معينة من مجتمع الثلاثينات، وبقيت معنا حتى اليوم قدمها أبو سيف بشكل واقعي مقنع وجعلنا نتعاطف معها بالرغم من سقوطهم عند أول مواجهة. وكأن محفوظ أو أبو سيف أو أبطال الفيلم يحددون الحل الجذري بإعلان الثورة والتغيير الكلي للمجتمع.
ففي مشهد النهاية يضع أبو سيف فى أوراق ” على طة “الحل لهذا الفساد المتفشي في قيام المجتمع الاشتراكي.
عبدالعزيز المكيوي ممثل مصري من مواليد عام ١٩٣٤، حاصل على بكالوريوس الفنون المسرحية في عام ١٩٥٤. يتقن العديد من اللغات منها الإنجليزية والفرنسية والروسية، عرفة الجمهور عندما تألق في مسرحية (الطعام لكل فم) لتوفيق الحكيم، والمذاعة تليفزيونيًا في بداية الستينيات، وكانت قمة تألقه في دور المُناضل (علي طه) في رائعة نجيب محفوظ (القاهرة ٣٠) من إخراج صلاح أبو سيف عام ١٩٦٦، ثم اتجه إلى التليفزيون ليقوم بالمشاركة في العديد من المسلسلات، ومنها: (المنيرة، أوراق مصرية، الساقية).