وإن كان النقد الحديث قد أدرك أن للصورة قيمة مميزة ، خاصة في التعبير عن التكوين النفسي للتجربة التي عاشها الشاعر ، وتأكيد التلاحم العضوي بين الخصائص الفنيّة ، والمحتوى الفكري ضمن فلسفة موحدة تمنحها الصورة الكليّة للقصيدة ، فإنه كان حريصاً على ألاَّ تصبح القصيدة برواز صوري تندفع فية الصورة بقصد تراكمي ، تتكسر بسببه ايحاءاتها ، وتتلاطم أو تسقط في الجمود والتنافي . فلا بد إذاً من أن تخضع الصورة في القصيدة لحركة منسجمة بين كم الصور ، وقيمتها الفنيّة والتعبيريّة ؛ حتى لا تفتقر إلى التوازن بين ما تطمح إليه من إذكاء للغرابة ، وماتكنّة فعلاً من قدرة على الإيحاءات والتداعيات النفسيّة عند متلقيها . فهي بذلك تتفق مع ” الذات ” في القصيدة “القديمة ” يقول وهب أحمد : ( بلى إن في التراث هذا العنوان ويطوف به ، ولكنه لا يعد له . فقد تجد في هذا الحديث أمشاجاً مردوداً لبعضها إلى ما يعرف لدى الدارسين ب ” المقدمات ” من عزل وظعن وشيب وشباب وغير ذلك… ).
فهو يرى أن مصطلح ” الأغراض الشعريّة ” يراه يدمر الإحساس بوحدة القصيدة ، ويكافح النظرة العميقة إلى رمزيتها ، ويصادر التفكير في طبقات المعنى ، ويشوب فضاءها النفسي بكدرة قاتمة . ويمكن أن نستشهد بحال الشاعر ” المتلمس الضبي ” والذي يعتبر من المُقلين الثلاثة في الجاهليّة : ” المسيب بن علس ، والحصين بن حُمام ، والمتلمس ” واتفقوا على أن المتلمس أشعرهم . وهو صاحب الصحيفة المشهورة في كتب التاريخ الأدبي ويقال أنه هجا عمر بن هند ملك الحيرة فحرم علية العراق ، فقضى بقية حياته منفيّاً طريّداً في الشام حتى هلك . فكان يجد ذاته ويفرّج همه في ليل غربته بذكر ناقته فيقول :
حنّت قلوصي بها والليل مطرق بعد الهدو وشاقتها النواقيسُ معقولة ينظر التشريق راكبها كأنه من هوى للرمل مسلوسُ وقد ألاح سهيلٌ بعدما هجعوا كأنه ضرمٌ في الكهف مقبوسُ حنّت إلى نخلة القصوى فقلت لها : بسلُ عليكِ ألاّ تلك الرّهاديسُ لن تسلكي سبل البوباة منجدةٍ ماعاش عمرو وما عُمرت قابوسُ هذا هو خبز الحقيقة المُر يملأ فمه فيلتفت إلى ناقته لعلها تسلي همومه ، وتحمل عنه بعض أعباء روحه المرهقة . فهذا النص يصور موقفاً درامياً قاسياً ، يولده ويقاسيه ، ويغذيه تناقض فاجع بين الشاعر والناقة . وتشتبك في هذا الموقف وتختلط وتتناقض حقوق مشروعة شتى ، وتبدو عناصر كثيرة في هذا النص صالحة لحمل دلالات رمزيّة خصبة : ( الليل – التشريق – ونجم سهيل – وفكرة الهجوع – وموت عمرو وقابوس ) فهي رموز صغيرة متوهجة تغذي رمزاً أكبر وتزيدة ألقاً واشراقاً : إنه الناقة ، أم الحنين وسليلته في الثقافة العربية القديمة عامة وفي الشعر العربي القديم خاصة .
* شعرنا القديم والنقد الجديد – وهب أحمد رومية – الوطن للثقافة والفنون والآداب – 1996م * ديوان المتلمس – تحقيق حسن كامل الصيرفي – 1968م