في كتابه “تاريخ الخلفاء”، يروي جلال الدين السيوطي قصة مُعبِّرة عن القضاة وأمراء المناطق في عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، فيقول: “أرسل الخليفة المنصور إلى قاضيه، وأميره على البصرة، سوار بن عبد الله رسالةً كتب فيها: “انظر إلى الأرض التي تخاصم فيها القائد فلان والتاجر فلان، فأعطها للقائد”، فكتب القاضي إليه “إن البيِّنة عندي أنها للتاجر، فلست أعطيها لغيره إلا ببيِّنة”.
حين وصلت الرسالة الى المنصور أرسل مع رسوله رقعة كتب فيها “والله الذي لا إله إلا هو لتعطينها إلى القائد”، فكان جواب سوار: “والله الذي لا إله إلا هو، لا أخرجها من يد التاجر إلا بحق”.
ولما وصل كتابه إلى المنصور فرح الأخير بجوابه، وهتف أمام الحاضرين في مجلسه: “ملأتُها واللهِ عدلاً، فصار قضاتي يردّونني إلى الحق”!
بهذا الموقف قطع القاضي سوار دابر الفساد في إمارته، ولهذا حين قال المنصور عبارته الشهيرة: “ملأتها والله عدلاً، فصار قضاتي يردونني إلى الحق”، فإنه كان يطمئنُّ إلى أنَّ الدولة بخير مادام الفساد لم ينفذ إليها.
في المقلب الآخر، ثمة أمثلة كثيرة عن سقوط الدول، أهمها ما جرى في الأندلس التي تآكلها الفساد والخلافات بين قادة الطوائف، فبدأت إماراتها تنهار الواحدة تلو الأخرى، حتى كانت غرناطة آخرها، التي وقف آخر حكامها أبوعبدالله الصغير على إحدى التلال المحيطة بها باكياً، فقالت له أمه: “ابكِ مثلَ النِّساءِ مُلكاً مُضاعاً لم تحافظ عليه مثلَ الرِّجالِ”.
لم تكن الأندلس لتسقط لولا التطاحن والخلافات بين الحكام والأمراء والفساد الذي عمَّ البلاد، والسعي إلى التغلب على أهل البيت الواحد بالتحالف مع القشتاليين.
هذان مثالان مما يمكن لأي مسؤول أن يتعلم منهما كيف يُمكنه المحافظة على المؤسسة التي يتولاها، فإذا تهاون بأمر سيصبح عبداً للفاسدين، وهو ما حذر منه العالم الاجتماعي عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته حين كتب “الظلم مؤذن بخراب العمران، فكيف إذا اقترن ذلك بسوء اختيار الأعوان الذي هو محاولة انتحار صريحه للدولة؛ لأن هؤلاء يضعون الغشاوة على أعين الحاكم، وبالتالي لا يعرف للعدل طريقاً”.
أضاف ابن خلدون: “من أولى علامات انهيار الدول كثرة المُنجمين والشحاذين والمنافقين والمدعين والكتبة والقوالين والمغنين النشازين والشعراء النظامين والمتصعلكين وضاربي المندل وقارعي الطبول والمتفقهين وقارئي الكف والطالع والنازل والمتسيسين والمداحين والهجائين وعابري السبيل والانتهازيين، ويسوء التدبير، ويختلط الصدق بالكذب، وتطول المناظرات ويلوذ الناس بالطوائف وتعم الإشاعة ويتحول الصديق عدواً والعدو صديقاً، ويعلو صوت الباطل ويخفق صوت الحق، ويصبح الانتماء إلى القبيلة أشد التصاقاً وإلى الأوطان ضرباً من ضروب الهذيان، ويضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء، ويعمّ الهرج والمزايدات على الانتماء، ويتقاذف أهل البيت الواحد التهم بالعمالة والخيانة”.
العِبْرة من كل هذا هي أن من يوليه الحاكم أمر الناس عليه صيانة تلك الثقة، فلا يفرط بأمر من أمور العامة، ويكون عادلاً يؤدي الأمانات إلى أصحابها؛ لأنه بغير ذلك يزعزع أركان الدولة، ويفسح في المجال لكل ما تحدث عنه ابن خلدون عن أسباب انهيار الدول، ومن هنا لو كان القاضي سوار بن عبدالله يطلب السلامة، ويتوخى مصلحته الشخصية لنفذ أمر الخليفة، غير أنه حكم بالحق ودافع عنه غير عابئ بما سيكون عليه رد الحاكم.
في المقابل لو لم يلجأ أبوعبدالله الصغير إلى المساومة على إمارته مع ملك قشتالة فردناندو لما كان وقف على تلك التلة باكياً، وما ينطبق عليه ينطبق على أصغر وأكبر مؤسسة في أي دولة، فهل هناك من يتعلم من دروس الماضي؟
ابن خلدون:
“من أولى علامات انهيار الدول كثرة المُنجِّمين والشحاذين والمُنافقين والمُدَّعين والكتبة والقوّالين وقارعي الطبول والمُتفقهين والمُتسيسين والمَدّاحين والهجّائين وعابري السبيل والانتهازيين وتحويل الصديق عدواً والعدو صديقاً وتقاذف أهل البيت الواحد التُّهم بالعمالة والخيانة.