حين نقارن القوتين السعودية والروسية بالمعايير العسكرية تكون الإجابة على السؤال في العنوان: “قطعاً لا”. بل قد يبدو السؤال كاريكاتورياً جداً.
إذاً ما الذي يجعل الروس والإيرانيين يطلبون التهدئة ويوافقون بشكل مفاجئ مؤخراً على وقف إطلاق النار، ولماذا تحاول إيران 6 مرات التواصل مع السعوديين، دون أن يجدوا أي تجاوب؟
ستجدون الإجابة على هذا السؤال في خاتمة هذه المقالة.
دعونا بداية نتذكر أن القوة العسكرية ليست ضامنة للنصر، وما جرى من هزيمة للأمريكان في فيتنام والعراق، وما جرى للسوفييت في أفغانستان، فضلاً عن تاريخنا العربي والإسلامي الذي يزخر بانتصارات باهرة جداً، رغم فارق القوة بين المسلمين والكفَّار. كل هذا يؤكد أن هناك ما هو أهم وأكبر من القوة العسكرية…
القوة العسكرية مجرد وسيلة واحدة من جملة وسائل متعددة حين تتضافر وتعمل مع بعضها بتناغم يمكن أن تحقق النصر.
لندع المقارنة بين القوة العسكرية السعودية والروسية جانباً، ولنبحث في الوسائل والأوراق الأخرى التي تستطيع بواسطتها السعودية أن تضرب الروس ضربات موجعة جداً.
أولى هذه الأوراق هي شرعية التدخل السعودي في مقابل عدم شرعية التدخل الروسي.
بأي حق يأتي الروس من أقصى الأرض ليحتلوا بلداً عربياً مسلماً ويضربوا شعبه ويقصفوه بالصواريخ، بينما لا يحق ذلك للسعودية البلد العربي المسلم المؤثر؟
سيقول قائل: لقد طلب تدخل الروس الرئيس المعترف به دولياَ؟
الصحيح أنه بعد أن قتل هذا الرئيس المعترف به دولياً 450 ألف مواطن من شعبه لم يعد له أي شرعية، والجميع بات يعرف ذلك، ونحن هنا لا نتكلم عن شرعية دولية رسمية– رغم أهميتها– بل عن شرعية إنسانية حقوقية.
قد يقول قائل آخر: لقد جاء الروس لحرب داعش. وهي الحجة البائخة التي باتت مكشوفة ومفضوحة، بالنظر إلى أن من يستهدفهم القصف الروسي هم الجماعات المعتدلة والمدنيون.
وكذلك السعودية وتركيا سيأتون لحرب داعش وتحت غطاء التحالف الدولي أو الإسلامي. وهو تحالف أكثر شرعية من تحالف نظام بشَّار مع الروس.
إذاً السعودية تمتلك المبرر الشرعي للتدخل في سوريا “العربية” “الإسلامية” أكثر من الروس. وهو مبرر تعترف به الأمم المتحدة، التي تعترف بالتحالف الدولي للحرب على داعش، كما أن التحالف الإسلامي تحالف تعترف به جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وتشارك فيه العشرات من البلاد الإسلامية.
نأتي إلى ورقة أخرى تتفوق فيها السعودية على روسيا. إنها ورقة النفط. فروسيا تعاني وضعاً اقتصادياً خانقاً مع هبوط أسعار النفط، لأنها تعتمد بشكل كبير على مداخيل النفط. هذا لا يعني أن السعودية لا تواجه وضعاً اقتصادياً صعباً، بلى.. لكنه لا يُقارن بالوضع الاقتصادي الروسي، الذي يتسبب في تصاعد الغضب الشعبي في الداخل الروسي.
ولنتخيل الوضع كما هو: روسيا تحارب في أوكرانيا وفي سوريا، ويحاصرها الغرب اقتصادياً. ومنفذ غازها الطبيعي الوحيد هو تركيا. ووضعها الاقتصادي سيئ. هل تفكر دولة طبيعية تمر بما تمر به روسيا اليوم، من ظروف صعبة في دخول حرب شاملة مع العرب والمسلمين، اللهم إلا إن كان من يقودها مخبول؟!
قد يقول قائل: إن بوتين مخبول ومهووس وقد يفعلها. فأقول: فلماذا يبحث عن التهدئة إذاً؟! بوتين انفعالي ومتهور، ولكنه ليس بمجنون، فهو لا يريد أن ينتهي به الحال معلقاً على حبل مشنقة في الميدان الأحمر في قلب موسكو!
نأتي إلى ورقتنا الأخيرة وهي الأهم والأكبر، وهو ما تلوح به السعودية أمام العالم كله بمن فيهم الأمريكان. ألا وهي ورقة “الموقع الإسلامي الروحي والديني”، الذي تمثله السعودية بالنسبة للعرب والمسلمين.
لقد أحسنت السعودية كثيراً باختيارها لمسمى “التحالف الإسلامي”، فهو مسمى أخرج داعش عن كونها إسلامية، وأوضح عزم المسلمين على التصدي لها، كما أنَّ استهداف أي دولة لهذا التحالف الإسلامي سيبدو كما لو أنَّه استهداف للمسلمين والإسلام.
فلو تهور بوتين مثلاً واستهدف قوات التحالف الإسلامي، فهو يعلن عن حربه ضد الإسلام والمسلمين، وهي حرب لا أحد يخشاها أكثر من الروس، فمن بين الدول التابعة لروسيا جمهوريات إسلامية تنتظر انشغال روسيا كي تثور وتتحرر، زد على ذلك أن النفوذ التركي الإسلامي في هذه الجمهوريات، هو نفوذ تاريخي روحي وسياسي.
ولكم أن تتخيلوا هذا المشهد، وهو ليس مشهدًا من الخيال العلمي:
المفتون في البلاد العربية والإسلامية، وخطيب الحرم المكي، وخطيب المسجد النبوي، وخطيب المسجد الأقصى يعلنون النفير الإسلامي، ويفتون بأن روسيا أصبحت دولة “محاربة”، الأمر الذي يجيز للمسلمين ضرب مصالحها في أي مكان في العالم!
مشهد خطير جداً أليس كذلك؟
لكن بالرغم من أن ذلك ليس في وارد السعودية حالياً، إلا أنَّه ليس بالأمر المستحيل، وآخر العلاج الكي.
لقد عاشت السعودية زمناً طويلاً وادعة هادئة لا تتدخل في شؤون الآخرين، ولا تريد للآخرين أن يتدخلوا في شؤونها. لكن هذه الوداعة فًهِمت من الإيرانيين وكلابهم من الميليشيات الشيعية العربية، ومن الروس خطأً أنها ضعف أو جبن أو غياب عن الواقع أو تردد.
اليوم السعودية تصحح الأوضاع. وتكشف عن أنيابها لتعلن أن الليث لا يبتسم هذه المرة.
ما سبق هو مجرد عرض للأوراق التي تملكها السعودية وتعزز بها موقفها ضد الروس.
إذاً باختصار شديد: تملك السعودية شرعية حقيقية في التدخل على الأرض السورية “العربية” و”الإسلامية”، ووضعاً اقتصادياً متماسكاً، ومكانة روحية ودينية عظيمة.
والآن لنرى ما هو أبعد من المقارنة السعودية الروسية، ألا وهو وجود تركيا في قلب هذا الصراع، وإلى جانب السعودية.
القصف المدفعي التركي على مواقع الأكراد في الشمال السوري كشف أن الوقت قد حان للخروج على وجهة النظر الأمريكية، فأمريكا تدعم الأكراد، وهي تريد منهم أن يتقدموا كي يكونوا سكيناً في خاصرة تركيا، لكن تركيا طفح كيلها فأعلنت عن رفضها لهذا المخطط الأمريكي.
أمريكا وليس الربيع العربي أو أي أحد آخر من يريد تقسيم العالم العربي. إنها تدعم كل الأقليات، ولم يعد هذا سراً. هي تستخدم ما تفعله داعش ضد الأقليات، كي تدعم تلك الأقليات وتمكنهم ضد الأغلبية السنية، تحت غطاء الحرب على داعش. هذا الملعوب الأمريكي بات مكشوفاً.
السعودية وتركيا اليوم أقل اهتماماً بوجهة النظر الأمريكية، وهذا أمر صحي للغاية، فلقد صبرتا بما فيه الكفاية، وحان الوقت كي تضمنا مصالحهما المشتركة، التي يبدو أنها اليوم تتناقض مع المصالح الأمريكية “التقسيمية”.
إن المعركة في سوريا باتت اليوم معركة وجود بالنسبة للسعودية وتركيا. فهزيمة الثوار في سوريا تعني تمكين الإيرانيين من العراق والشام، وتعني أيضاً أن روسيا ستكون بلطجي العالم الجديد، الذي لن يسلم منه أحد…
إننا أمام واقع جديد، سعودية جديدة صاعدة تأخذ حقها بيمينها، ولا تنتظر منة أو فضلًا من أحد، سواء أكان حليفاً كبيراً أو صغيراً، فحين يتعلق الأمر بمصالحها الاستراتيجية ستتدخل في شؤون الآخرين وتوقفهم عند حدهم.
وهذه هي الإجابة على السؤال في المقدمة حول حماس روسيا وإيران المفاجئ للتهدئة وعمل وقف لإطلاق النار…