جمع وتدقيق / د. مصعب أبوبكر
كثرت المساجلات الشعريّة في أدبنا العربي الخالد في مختلف العصور ، لاسيما العصر العباسي .
بين أيدينا اليوم مساجلة بديعة دارت بين الشاعر أبي تمام والشاعر الملقب بديك الجن الحِمْصِيّ . حتى أنها تعدتهما إلى غيرهما .
فهذا أبو تمام ينشده قائلاً :
نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الهَوَى…مَا الحُبُّ إلا لِلْحَبيب الأوَّلِ
كَمْ مَنْزِلٍ فِي الأرْضِ يَألَفُهُ الفَتَى…وَحَنِينُهُ أبَدًا لأوَّلِ مَنْزِلِ
فما كان من الحمصي إلا أن يرد سريعاً على زعم أبي تمام :
كَذِبَ الَّذِينَ تَحَدَّثُوا أنَّ الهَوَى…لا شَكَّ فِيهِ لِلْحَبيب الأوَّلِ
مَا لِي أحِنُّ إلَى خَرَابٍ مُقْفِرٍ…دَرَسَتْ مَعَالِمُهُ كَأنْ لَمْ يُؤْهَلِ
فلما بلغ أبا تمام ما قاله ديك الجن ردَّ قائلا:
كَذِبَ الَّذِينَ تَخَرَّصُوا فِي قَوْلِهِمْ…مَا الحُبُّ إلا لِلْحَبيبِ المُقْبلِ
أفَطيِّبٌ فِي الطَّعْمِ مَا قَدْ ذُقْتَهُ..مِنْ مَأكَلٍ أوْ طَعْمُ مَا لَمْ يُؤْكَلِ؟
فلما سمع ديك الجن مقالة أبي تمام ردَّ قائلا:
اِرْغَبْ عَنِ الحُبِّ القَدِيمِ الأوَّلِ…وَعَلَيْكَ بالمُسْتَأنِفِ المُسْتَقْبلِ
نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ فَلَنْ تَرَى…كَهَوًى جدِيدٍ أوْ كَوَصْلٍ مُقْبلِ
ويبدو أن كلامَ ديك الجن أقنع شاعرًا آخر، فما كان منه إلا أن قال:
دَعْ حُبَّ أوَّلِ مَنْ كُلِفْتَ بحُبِّهِ…مَا الحُبُّ إلا لِلْحَبيب الآخِرِ
مَا قَدْ تَوَلَّى لا ارْتِجَاعَ لِطِيبهِ…هَلْ غَائِبُ اللذَّاتِ مِثْلُ الحَاضِرِ؟!
دُنْيَاكَ يَوْمُكَ دُونَ أمْسِكَ فَاعْتَبرْ…مَا السَّالِفُ المَفْقُودُ مِثْلَ الغَابرِ
وفي وسط تلك المساجلة يخرج رأي ثالث، يمثله هذا الشاعر الذي قال:
قَلْبي رَهِينٌ بالهَوَى المُتَقَبِّلِ…فَالوَيْلُ لِي فِي الحُبِّ إنْ لَمْ أعْدِلِ
أنَا مُبْتَلًى ببلِيَّتَيْنِ مِنَ الهَوَى…شَوْقِي إلَى الثَّانِي وَذِكْرِ الأوَّلِ
ثم تتسع المسألة لتبلغ رابعًا له رأيٌ مغايرٌ تماما ، يقول:
الحُبُّ لِلْمَحْبُوب سَاعَةَ حُبِّهِ…مَا الحُبُّ فِيهِ لآخِرٍ وَلأوَّلِ