الكاتب : رعد التميمي
حسيبك للزمن .. للصبر حدود .. أنساك ده كلام .. حب أيه .. وغيرها من اغاني الزمن الجميل لكوكب الشرق الراحلة ام كلثوم .. يحرص الشاب حيدر حسن / طالب جامعي على سماعها يوميا , ويمضي معظم ساعات النهار في المقهى ..مصطحبا معه حقيبة جلدية انيقة تحوي دفتر مذكراته وبعض المحاضرات بحسب قوله ,
وعندما استفسرت عن سبب حبه الشديد لهذه الاغاني بالذات , لا سيما وانها مخصصة للمحبطين عاطفيا من الذين عاشوا قصة حب فاشلة .. فقاطعني مبتسما محاولا اخفاء تأثره الشديد بكلام الاغنية وتهربا من سؤالي المحرج والذي ربما مس كبريائه , فاخبرني بانه كلما يمر بأزمة عاطفية ياتي الى هنا ( للتزود بالمعنويات ) .. ابتسمت له وتركته سابحا مع رومانسياته ..
حيدر لم يكن الوحيد الذي يجلس يستمع الى اغاني ام كلثوم .. عشرات الشباب مثله .. كانوا يمضون ساعات في مقهى ام كلثوم في منطقة الميدان .. هنا اخذنا فضولنا الصحفي للدخول في هذا المقهى لنتعرف عن تفاصيل اخرى عنها ..تلبية نداء خفي
الحاج قدوري عبد الله رجل تجاوز العقد السابع من العمر , ويعد من اقدم رواد المقهى يصف اجواء المقهى فقال :
هذه المقهى تعاقب على امتلاكها وادارتها الكثيرون، ومنهم الحاج عبدالغفور النعيمي الذي جاء من الموصل تلبية لنداء خفي يشده نحو المقهى، وحبه لفن ام كلثوم , وهذا المقهى مكان يشبه النادي الفني الذي يتجمع فيه عشاق ذلك الطرب الذي تربع على ناصية الغناء العربي، منذ بدايته والى يومنا هذا , حين تدخل اليها من ممرها الطويل، يداخلك شعور بالانتماء الى طقس خاص لايمارس بمعزل عن هذا المكان، ويشدك اليه جو متراكم، شارك فيه اصحاب المقهى على مر سني وجودها، وعمالها المتعاقبون على الخدمة فيها، واخيرا زبائنها الذين يحرصون على جوها السحري، بتقديمهم النادر من الصور لسيدة الغناء العربي، وتبادلهم الاخبار والقصص غير المعروفة، عن ام كلثوم وملحنيها العباقرة، وكتاب كلمات اغانيها التي اصبحت كالاساطير، تتناقلها الاجيال بالتبجيل والتقديس , الجلوس في المقهى له قوانينه الخاصة، غير المعلنة، يبدأ اولا استماع الى احدى روائع السيدة في العاشرة صباحا، حين يكون اول الزبائن قد احسنوا تحضير ذائقتهم الفنية لتلك اللحظات، التي سوف ترحل بهم الى عالم مغاير تماما لعالمهم، ووسطهم الصاخب اللاهث وراء تفاصيل الحياة المملة.
امنية عزيزة
الحاج قيس الاعظمي احد اقدم زبائن المقهى، يقول ان الانتماء الى المقهى يتطلب معرفة كبيرة باسرار غناء ام كلثوم، وتفاصيل الالحان الخالدة التي صاغها اكبر ملحني الشرق. ويذكر انه حين سمع لاول مرة بوجود مقهى خاص بام كلثوم، اخذ جسمه يرتجف واحس انه امام امنية عزيزة سوف تتحقق بجلوسه يوميا للاستماع الى نوادر السيدة.
زيارة لام كلثوم
ويضيف : على مر السنين تجمعت عند ادارة المقهى، افضل التسجيلات واكثرها ندرة، فقد حرص كل من ورث المقهى على الوصول الى ابعد مكان ممكن ان يجد فيه تسجيلاً غير مسموع، حتى يقال ان الحاج عبدالغفور ذهب ذات مرة الى القاهرة وسأل السيدة ام كلثوم نفسها عن تسجيل قديم لاحدى اغانيها، فاهدته من مكتبتها الخاصة ذلك التسجيل، تقديرا له وللمقهى الذي يجمع محبي فنها العريق.
ويتابع : لم تدع متغيرات الحياة حول ذلك المكان الذي يبدو عصيا على الزمن، الامور تجري على نهجها الاول، فقد طالب بعض الزبائن الذين بدأ عددهم بالتزايد بادخال لعبة الدومينو والطاولي الى المقهى لطول ساعات وجودهم هناك الامر الذي اثار غضب الزبائن القدماء الذين يحرصون على تقاليد الاستماع التي رسخوها بانفسهم.
وحسب المدير الحالي للمقهى ، فان المقهى يحتاج الى بعض التغيير، لم يعد الجميع يأتون الى هنا للاستماع فقط، والزبون على حق دائما.
ها هو احد التقاليد الفنية العريقة في بغداد، تتعرض الى التغيير والتبدل، ولكن الذي لايتغير، هو الساعة العاشرة صباحا حين يصدح صوت ام كلثوم باحدى اغانيها الاسطورية من المقهى الذي بلغ عمره قرابة الخمسة عقود ..
حكاية ازاد وسالار
ازاد هيمن .. سالار دلشاد .. قدما الى بغداد من السليمانية لانجاز بعض الاعمال .. يحرصان على ارتياد المقهى كلما قدما الى بغداد .. سالناهما عن مشكلة اللغة , وهل يفهمان كلمات اغاني ام كلثوم , فاجاب ازاد بان المستمع الكردي، مثل أي مستمع شرقي آخر، يتذوق الموسيقى الشرقية. ومع أن الأغاني الكردية تتصف بالقصر والاختصار منذ ظهور الإذاعة العراقية وتسجيل كبار المطربين الكرد أغانيهم فيها، فإن هذا المستمع، شأنه شأن المستمع العربي، ما كان يمل أو يشبع من أغاني سيدة الغناء العربي على الرغم من طولها، وتكرار مقاطعها، فهو أيضا يحب الطرب ويهوى السلطنة , والواقع أن مقاهي وكازينوهات أربيل والسليمانية، في تلك الأيام الجميلة، ومع أول ظهور لمسجلات الكاسيت تتسابق في بث أغاني أم كلثوم. ولا مبالغة إذا قلنا إنها كانت المطربة الوحيدة التي تزين صورها جدران تلك المقاهي والكازينوهات، وكاسيتاتها تحتل الصدارة في طلبات الزبائن.
ويقول ازاد بانه يملك ارشيفا خاص بأغاني أم كلثوم، و أنه عجز عن الحصول على النسخ الأصلية لأغانيها. وأردف: الأرشيف ناقص، وأقراص الـ(سي دي) التي أشتريها من السوق لا تتحمل سوى العرض لعدد محدود من المرات، وسرعان ما تتلف لأنها ليست النسخ الأصلية. فياليتك تعاونني في الحصول على النسخ الأصلية لإكمال الأرشيف الخاص بأغانيها , فاصطحبته الى احد اصدقائي الذي يمتلك محل تسجيلات خاص باغاني ام كلثوم في منطقة الميدان وتركته عنده ومضيت ابحث عن مهمة صحفية اخرى جديدة ..