كتبت : أسماء محمود
عندما يتم الحديث عن معضلات مصر اليوم، تكون الإحالة إلى أزمات نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي ومآزقه،
سياسياً واقتصادياً وأمنياً
، سواء على الصعيد الداخلي، المتمثل في التأزيم مع مكونات المشهد المصري برمته، أم على الصعيد الخارجي، إقليمياً ودولياً. هذا هو البعد الذي يتحدث الغالبية فيه،
ويسوقون له أدلة ظاهرةً لا تكاد تخطئها عين.
فنظام السيسي يترنح تحت وطأة الضربات المتتالية،
غير أن الواقع أشد من ذلك وأخطر.
نظام السيسي، وفشله في قيادة مصر، لم تعد ارتداداتها مقتصرة على تهديد استقرار نظام حكم الديكتاتور،
بل إنها تهدد بتحويل مصر إلى “دولة فاشلة”، بكل ما تحمل معاني التوصيف .
فتحت عملية تفجير الطائرة الروسية، أواخر الشهر الماضي (أكتوبر)، فوق سيناء، والتي تبناها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ثغرات واسعة في منظومة الأمن القومي المصري،
قد تكون بداية لتدخل أجنبي عسكري وأمني مباشر .
قد تكون تلك العملية، وما قد يتبعها، بمثابة “حصان طروادة” لبدء التعدي، في مرحلةٍ أولى، على السيادة المصرية في سيناء، وهي السيادة المنتهكة أصلاً، إسرائيلياً وأميركياً. ولذلك، يخطئ نظام السيسي، ومحللون كثيرون، عندما يركزون حديثهم عن كارثية العملية على قطاع السياحة، والذي يمثل أحد أهم شِرياناتِ الاقتصاد المصري، ويهملون كارثية العملية ودلالاتها على السيادة واستقلال المصريين.
هذا بمقارنة المصريين بالغرب.
بشقيه الأميركي والأوروبي، كما إسرائيل، والآن روسيا، لا تعني مآزق نظام السيسي وفشله في إدارة مصر، سياسيا واقتصاديا، الكثير بالنسبة لهم. فمصر دائما ما كانت فاشلة على هذه الصعد، خصوصاً في عقود حكم نظام حسني مبارك الثلاثة العجاف، لكن الفشل على الصعيد الأمني في سيناء، وعموم مصر، أمر آخر، لا يمكن قبوله، لما يحمله من مخاطر على استقرار الإقليم برمته، وحتمية تعديه فضاء الإقليم إلى العالم، وتحديدًا الفضاءين الغربي منه والروسي. تنظر تلك الأطراف إلى ما جلبته الفوضى في سورية وليبيا، مثلاً، من مخاطر أمنية حقيقية إلى حدودهم وفي عقر دارهم، ومن ثمَّ لا يستبعد أن تكون هنالك محاولات استباقية لإجهاض سيناريو مشابه في مصر، عبر التدخل في شؤونها، بما في ذلك عسكرياً، عبر ضربات جوية، كما يجري اليوم في سورية والعراق، وغيرهما من الدول العربية الأخرى.
ضمن السياق السابق، لا ينبغي أبدا التقليل من خطورة تصريح وزير الخارجية الروسي،
“القرارات الروسية اتخذت، من دون حتى تَكَلُّفِ عناء إبلاغ الجانب المصري بها رسميا، ابتداء، قبل الإعلان عنها”
سيرغي لافروف، قبل أيام، عن حق بلاده في الرد على إسقاط طائرتها “سياسياً وعسكرياً”. صحيح أن لافروف لم يقل صراحة إن هذا الرد المحذور سيكون في مصر، أو سيشملها، غير أن مجرد إطلاق الروس تصريحاً كهذا، مطلقاً غير مقيد، ومن دون مراعاة للحساسيات المصرية، ينبئ بأن مصر لا تحظى، اليوم، باحترام لدى اللاعبين الدوليين الكبار. ولا يمكن أخذ هذا التصريح منعزلاً عن سياق آخر، ويتمثل في قرار روسيا حظر رحلات شركة “مصر للطيران” إلى أراضيها، ثمَّ إعلان وزير النقل الروسي، مكسيم سوكولوف، قبل أيام، أن آخر رحلة للطائرات الروسية إلى مصر ستكون نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، لإجلاء من تبقى من السياح الروس في مصر. المفارقة هنا، أن تلك القرارات الروسية اتخذت، من دون حتى تَكَلُّفِ عناء إبلاغ الجانب المصري بها رسميا، ابتداء، قبل الإعلان عنها.
وحده نظام السيسي من لا زال يكابر في حقيقة القاع الذي تقبع فيه مصر اليوم، والانتقاص المتتالي من سيادتها وكرامتها، فهو لا زال يرفض الاعتراف بنتائج التحقيقات التي تقول إن الطائرة الروسية أسقطت بفعل قنبلةٍ، وضعت على متنها في مطار شرم الشيخ. وهو لا يريد أن يعترف أن الأطراف الغربية وروسيا لا يقيمون له وزناً في التحقيقات الجارية في الموضوع، بل إنه أصلاً لا يقود تلك التحقيقات، ولا يتم إشراكه في مصادرها ونتائجها. الأدهى أن فرقاً أمنية، أميركية وروسية وبريطانية، هي من تدرس، اليوم، وتحقق في سلامة الإجراءات الأمنية في المطارات المصرية ومتانتها. كل هذا يجري، ونظام السيسي لا زال لا ينظر للموضوع أبعد من تداعياته على استقراره، لا على استقرار مصر واستقلالها وسيادتها.
في ضوء ما سبق، وفي ضوء عجز نظام السيسي عن السيطرة على الأوضاع الأمنية في سيناء، ومصر عموماً، ثمَّة إمكانية حقيقية اليوم لأن تبادر أطراف غربية وإسرائيل وروسيا إلى أخذ زمام المبادرة في مصر، بذريعة لَجْمِ تنامي قدرات “داعش” في سيناء، ومحاولة حرمانه من “ملاذ آمن” آخر يشن من خلاله هجماته. وإن تَمَّ ذلك، فما الأوراق التي يملكها نظام السيسي لوقف ذلك؟
بكل صراحة: لا شيء، فالجيش المصري أثبت فشلاً فاضحاً في الانتصار على بضع مئات من المقاتلين في سيناء، وإنهاء ظاهرتهم وتهديداتهم، ومرد هذا الفشل فشل أسس نظام الحكم في مصر ومقارباته. فكيف يمكن الانتصار في المعركة مع التطرف والإرهاب في مصر، في حين أن منبعه هو النظام المصري نفسه وممارساته؟ أم هل، يا ترى، أن ثَمَّةَ من يظن فعلاً أن سياسات النظام المصري الإجرامية بحق أهل سيناء غير حاضرة في خلفية المشهد الجاري هناك؟ كيف يمكن الانتصار في مثل هذه المعركة، في حين أن مركز تعريف نظام الحكم في مصر للإرهاب قائم على اعتبار جزء أصيل من المعارضة الشعبية والسياسية السلمية “إرهابية”؟ كيف يمكن الانتصار على التيارات العنفية المسلحة، والمؤسسة العسكرية المصرية شركة استثمارية اقتصادية احتكارية، في حين أن الأجهزة الأمنية منافس استثماري اقتصادي احتكاري آخر. إن المؤسسة العسكرية مشغولة في تأمين أركان الحكم الذي اغتصبته عبر انقلاب صيف عام 2013، كما هي مشغولة في تأمين امتيازاتها الاقتصادية، وتقتصر إنجازاتها على أوهام فاضحة كـ”جهاز الكفتة” لعلاج الأمراض المستعصية. أما المؤسسة الأمنية فهي جهاز قمع لا جهاز أمن، وكلا المؤسستين الأمنية والعسكرية متفرغتان لحماية مصالح نظام الحكم ومكوناته، لا أمن مصر واستقرارها واستقلالها وسيادتها.
بكلمة، تتحول مصر تحت هذا النظام، تدريجياً، إلى “دولة فاشلة”، فالانقلاب أسقط مفهوم العمق الأمني القومي المصري، وكسر حالة الإجماع الوطني فيها. ثمَّ إنه ضاعف أزمات مصر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ووتّر المجتمع برمته، وأشرع له السجون والمعتقلات والمنافي والمقابر، وهو فوق ذلك رهن استقلال مصر لدول إقليمية، صغيرة وكبيرة، وأخرى دولية كبيرة، ثُمَّ ها هو، الآن، يفشل في خيار الاستقرار الأمني الذي وعد داعميه الخارجيين به، فماذا تبقى له؟ قد يقول بعضهم إن خَيارَ المُوَكِلينَ الداخليين والخارجيين للنظام الحالي، قد يكون في تغيير رأس النظام ودائرته المحيطة به، بعد أن تحول عبئاً عليهم، وهذا خيار وارد، غير أن الأخطر أن يرسو خيار المُوَكِلينَ الخارجيين على تهميش “الدولة المصرية” برمتها، وأخذ المبادرة في السياق الأمني.مصر الدولة الفاشلة بقيادة زعمائها
كتبت أسماء محمود
عندما يتم الحديث عن معضلات مصر اليوم، تكون الإحالة إلى أزمات نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي ومآزقه،
سياسياً واقتصادياً وأمنياً
، سواء على الصعيد الداخلي، المتمثل في التأزيم مع مكونات المشهد المصري برمته، أم على الصعيد الخارجي، إقليمياً ودولياً. هذا هو البعد الذي يتحدث الغالبية فيه،
ويسوقون له أدلة ظاهرةً لا تكاد تخطئها عين.
فنظام السيسي يترنح تحت وطأة الضربات المتتالية،
غير أن الواقع أشد من ذلك وأخطر.
نظام السيسي، وفشله في قيادة مصر، لم تعد ارتداداتها مقتصرة على تهديد استقرار نظام حكم الديكتاتور،
بل إنها تهدد بتحويل مصر إلى “دولة فاشلة”، بكل ما تحمل معاني التوصيف .
فتحت عملية تفجير الطائرة الروسية، أواخر الشهر الماضي (أكتوبر)، فوق سيناء، والتي تبناها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ثغرات واسعة في منظومة الأمن القومي المصري،
قد تكون بداية لتدخل أجنبي عسكري وأمني مباشر .
قد تكون تلك العملية، وما قد يتبعها، بمثابة “حصان طروادة” لبدء التعدي، في مرحلةٍ أولى، على السيادة المصرية في سيناء، وهي السيادة المنتهكة أصلاً، إسرائيلياً وأميركياً. ولذلك، يخطئ نظام السيسي، ومحللون كثيرون، عندما يركزون حديثهم عن كارثية العملية على قطاع السياحة، والذي يمثل أحد أهم شِرياناتِ الاقتصاد المصري، ويهملون كارثية العملية ودلالاتها على السيادة واستقلال المصريين.
هذا بمقارنة المصريين بالغرب.
بشقيه الأميركي والأوروبي، كما إسرائيل، والآن روسيا، لا تعني مآزق نظام السيسي وفشله في إدارة مصر، سياسيا واقتصاديا، الكثير بالنسبة لهم. فمصر دائما ما كانت فاشلة على هذه الصعد، خصوصاً في عقود حكم نظام حسني مبارك الثلاثة العجاف، لكن الفشل على الصعيد الأمني في سيناء، وعموم مصر، أمر آخر، لا يمكن قبوله، لما يحمله من مخاطر على استقرار الإقليم برمته، وحتمية تعديه فضاء الإقليم إلى العالم، وتحديدًا الفضاءين الغربي منه والروسي. تنظر تلك الأطراف إلى ما جلبته الفوضى في سورية وليبيا، مثلاً، من مخاطر أمنية حقيقية إلى حدودهم وفي عقر دارهم، ومن ثمَّ لا يستبعد أن تكون هنالك محاولات استباقية لإجهاض سيناريو مشابه في مصر، عبر التدخل في شؤونها، بما في ذلك عسكرياً، عبر ضربات جوية، كما يجري اليوم في سورية والعراق، وغيرهما من الدول العربية الأخرى.
ضمن السياق السابق، لا ينبغي أبدا التقليل من خطورة تصريح وزير الخارجية الروسي،
“القرارات الروسية اتخذت، من دون حتى تَكَلُّفِ عناء إبلاغ الجانب المصري بها رسميا، ابتداء، قبل الإعلان عنها”
سيرغي لافروف، قبل أيام، عن حق بلاده في الرد على إسقاط طائرتها “سياسياً وعسكرياً”. صحيح أن لافروف لم يقل صراحة إن هذا الرد المحذور سيكون في مصر، أو سيشملها، غير أن مجرد إطلاق الروس تصريحاً كهذا، مطلقاً غير مقيد، ومن دون مراعاة للحساسيات المصرية، ينبئ بأن مصر لا تحظى، اليوم، باحترام لدى اللاعبين الدوليين الكبار. ولا يمكن أخذ هذا التصريح منعزلاً عن سياق آخر، ويتمثل في قرار روسيا حظر رحلات شركة “مصر للطيران” إلى أراضيها، ثمَّ إعلان وزير النقل الروسي، مكسيم سوكولوف، قبل أيام، أن آخر رحلة للطائرات الروسية إلى مصر ستكون نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، لإجلاء من تبقى من السياح الروس في مصر. المفارقة هنا، أن تلك القرارات الروسية اتخذت، من دون حتى تَكَلُّفِ عناء إبلاغ الجانب المصري بها رسميا، ابتداء، قبل الإعلان عنها.
وحده نظام السيسي من لا زال يكابر في حقيقة القاع الذي تقبع فيه مصر اليوم، والانتقاص المتتالي من سيادتها وكرامتها، فهو لا زال يرفض الاعتراف بنتائج التحقيقات التي تقول إن الطائرة الروسية أسقطت بفعل قنبلةٍ، وضعت على متنها في مطار شرم الشيخ. وهو لا يريد أن يعترف أن الأطراف الغربية وروسيا لا يقيمون له وزناً في التحقيقات الجارية في الموضوع، بل إنه أصلاً لا يقود تلك التحقيقات، ولا يتم إشراكه في مصادرها ونتائجها. الأدهى أن فرقاً أمنية، أميركية وروسية وبريطانية، هي من تدرس، اليوم، وتحقق في سلامة الإجراءات الأمنية في المطارات المصرية ومتانتها. كل هذا يجري، ونظام السيسي لا زال لا ينظر للموضوع أبعد من تداعياته على استقراره، لا على استقرار مصر واستقلالها وسيادتها.
في ضوء ما سبق، وفي ضوء عجز نظام السيسي عن السيطرة على الأوضاع الأمنية في سيناء، ومصر عموماً، ثمَّة إمكانية حقيقية اليوم لأن تبادر أطراف غربية وإسرائيل وروسيا إلى أخذ زمام المبادرة في مصر، بذريعة لَجْمِ تنامي قدرات “داعش” في سيناء، ومحاولة حرمانه من “ملاذ آمن” آخر يشن من خلاله هجماته. وإن تَمَّ ذلك، فما الأوراق التي يملكها نظام السيسي لوقف ذلك؟
بكل صراحة: لا شيء، فالجيش المصري أثبت فشلاً فاضحاً في الانتصار على بضع مئات من المقاتلين في سيناء، وإنهاء ظاهرتهم وتهديداتهم، ومرد هذا الفشل فشل أسس نظام الحكم في مصر ومقارباته. فكيف يمكن الانتصار في المعركة مع التطرف والإرهاب في مصر، في حين أن منبعه هو النظام المصري نفسه وممارساته؟ أم هل، يا ترى، أن ثَمَّةَ من يظن فعلاً أن سياسات النظام المصري الإجرامية بحق أهل سيناء غير حاضرة في خلفية المشهد الجاري هناك؟ كيف يمكن الانتصار في مثل هذه المعركة، في حين أن مركز تعريف نظام الحكم في مصر للإرهاب قائم على اعتبار جزء أصيل من المعارضة الشعبية والسياسية السلمية “إرهابية”؟ كيف يمكن الانتصار على التيارات العنفية المسلحة، والمؤسسة العسكرية المصرية شركة استثمارية اقتصادية احتكارية، في حين أن الأجهزة الأمنية منافس استثماري اقتصادي احتكاري آخر. إن المؤسسة العسكرية مشغولة في تأمين أركان الحكم الذي اغتصبته عبر انقلاب صيف عام 2013، كما هي مشغولة في تأمين امتيازاتها الاقتصادية، وتقتصر إنجازاتها على أوهام فاضحة كـ”جهاز الكفتة” لعلاج الأمراض المستعصية. أما المؤسسة الأمنية فهي جهاز قمع لا جهاز أمن، وكلا المؤسستين الأمنية والعسكرية متفرغتان لحماية مصالح نظام الحكم ومكوناته، لا أمن مصر واستقرارها واستقلالها وسيادتها.
بكلمة، تتحول مصر تحت هذا النظام، تدريجياً، إلى “دولة فاشلة”، فالانقلاب أسقط مفهوم العمق الأمني القومي المصري، وكسر حالة الإجماع الوطني فيها. ثمَّ إنه ضاعف أزمات مصر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ووتّر المجتمع برمته، وأشرع له السجون والمعتقلات والمنافي والمقابر، وهو فوق ذلك رهن استقلال مصر لدول إقليمية، صغيرة وكبيرة، وأخرى دولية كبيرة، ثُمَّ ها هو، الآن، يفشل في خيار الاستقرار الأمني الذي وعد داعميه الخارجيين به، فماذا تبقى له؟ قد يقول بعضهم إن خَيارَ المُوَكِلينَ الداخليين والخارجيين للنظام الحالي، قد يكون في تغيير رأس النظام ودائرته المحيطة به، بعد أن تحول عبئاً عليهم، وهذا خيار وارد، غير أن الأخطر أن يرسو خيار المُوَكِلينَ الخارجيين على تهميش “الدولة المصرية” برمتها، وأخذ المبادرة في السياق الأمني.