كيفَ كانت تغسلُ الليلَ بقميصِ حبيبِها؟ لا يعرفُ أحدٌ على وجهِ الدِّقة..
حينَ كانت السِّتُّ نوَّارةُ تنشرُ القميصَ الأبيضَ الحزينَ فوقَ سطوحِها قبلَ صحيَانِ الشَّمسِ رأتها بنتُ الجارة، قالت لها والنِّساءُ يُتابعنَ الحديثَ من فوقِ أسطُحِهنّ: “يا خالةُ قد ضعفَ بصرُكِ على ما يبدو؛ ما زالت على القميصِ بُقعُ دماء، هذا لأنَّكِ غسلتِه بالليل”.
غضبت السِّتُّ نوَّارةُ وقالت لبنتِ الجارة: “فشَرتِ، قميصُ عبدِ الحيِّ ليسَ مُتَّسِخًا، وبُقعُ الدَّمِ هذه أنظفُ من كُلِّ البلد، وأنا لا أغسلُه بالليلِ وإنَّما أغسلُ الليلَ به ليستطيعَ هوامُ البلدةِ ومَن ليسَ لهم في الثّورِ ولا في الطَّحينِ النَّوم، ألا تعرفينَ -يا بغلةَ الزَّرائبِ- أنَّ الليلَ إن تُرِكَ وسِخًا في بلدٍ أطبقت على صدورِ النَّاسِ فيها الكوابيس؟”
ضحكتِ النِّساءُ وسألتُها: وما الذي يُوسِّخُ الليلَ يا خالة؟
قالت: “الظُّلم”.
سألتُها: لماذا تنشرينَ القميصَ إذًا وليسَ مغسولًا ولا من قبلُ مُتَّسخا؟
قالت: “لئلَّا تنسَى الأيَّامُ ولا أبناؤها عبدَ الحيِّ فتنزلَ عليهمُ اللعنة” ثُمَّ استدارت لتهبطَ الدَّرَج!
لم أكُن يومًا عطوفةً على كبارِ السِّنِّ ولا أشعرُ بواجبٍ نحوَهم يا حضرات، ولكنِّي في المساءِ أخذتُ طبقًا من الأُرزِ باللبنِ الذي أعدَّتهُ أُمِّي وذهبتُ إلى بيتِ الخالةِ لأنِّي كما كانَ يقولُ أخي: “مجذوبةٌ بالحكايات”، والسِّتُّ نوَّارةُ لم تنتظرْ منِّي طلبًا، ما إن جلستُ إلى جوارِها بعدَ السَّلامِ حتّى أطلقتْ عصافيرَ لسانِها:
عبدُ الحيِّ هذا كانَ -يا حبيبي- زَينَ الشَّباب، أيُّ طولٍ وأيُّ بسمةٍ وأيُّ عيونٍ وسيعة، يا رقصَ قلبي إذا إذا تحدَّثَ أو همس، مَنظرُه من بعيدٍ يشرَحُ الصَّدرَ الكريب، كانَ مُهندسًا لا تتسعُ الدُّنيا لسعةِ روحِه ولا تضيقُ يدُه بسخاءِ نفسِه، عندما زارتْنا أُمُّه -وكانَ يتيمًا- في العصاري وأسَّرتْ لأُمِّي بشيءٍ وهي تميلُ بجذعِها الطويلِ إليها خبَّأت أُمِّي فمَها بطرفِ شالِها وضحكتْ ضحكةً كانت تضحكُها إذا فاجأها فرْح، في الليلِ ناداني أبي وقال: “هل تعرفين عبدَ الحيِّ يا نوَّارة؟ خطبتْكِ لهُ أُمُّه فانظُري ماذا ترَين”، هرولتُ من أمامَ هَيبةِ أبي وأنا أُحاولُ أن أُخبِّئَ نفسي من أبي ومن عبد الحيِّ الذي تراءى لي واقفًا بالبابِ ينظر، ولم ينَم ليلي ذاك ولا لمسَ جنبي الفراش، كنتُ كُلَّما استلقيتُ تراءى لي عندَ البابِ يبتسمُ ابتسامتَه تلك فانتفضتُّ كالملدوغةِ أعدلُ الشَّالَ على شعري وأُخبِّئُ عَينَيَّ من جلالِ حضورِه، ولقد كنتُ مُعلِّمةً مهيوبةً من تلامذتي فما راعني إلا أن فقدتُ زمامَ نفسي عندما مرَّ بي في اليومِ التَّالي فانكفأتُ على وجهي أمامَه، أظنُّ أنَّ الأصحَّ أنِّي انكفأتُ على قلبي أمامَه.
بناتُ البلدةِ حسَدنني عليه حتى أرقدنني في السَّريرِ، وهو -والشَّهادةُ للهِ الحقِّ- كانَ يستحقُّ أن أرقدَ عامًا من حسدٍ عليه، قالت لي أُمِّي أنَّه جاء يسألُ عنِّي وهو في غرفةِ الجلوسِ مع أبي، اتَّقدَ خدَّاي واتَّقدَ قلبي، انطفأ خدَّايَ لكنَّ قلبي لم ينطفئ!
من غرفتي سمعتُ دبيبَ أقدامٍ وصوتَ أبي يزعق، أُمِّي أرسلت صرخةً شقَّت روحي، وبعدَ أن أخذه العساكرُ صمتَ البَيت، لم يُجب أحدٌ سؤالي: “أين عبدُ الحيّ؟”، وكنتُ للمرَّةِ الأولى أنطقُ اسمَه، هل تعرفينَ شيئًا يأكُلُ حياءَ لسانِ البنتِ من اسمِ حبيبِها يا بنت؟ إنَّه مُصيبتُها فيه.
بعدَ ثلاثةِ أيًّامٍ قامت البلدُ ولم تقعُد، قيلَ إنَّ حارسًا لمخزنِ غلالٍ في طرفِ المدينةِ قُتل، بعدَ أسبوعٍ قيلَ إنَّ الشُّرطةَ أمسكت بالقاتل، ولم يكُنِ إلا عبدَ الحي، عبدَ الحيِّّ الذي سرقوه كُحلًا من عيني قبلَ أن يُقتلَ القتيلُ بثلاثةِ أيَّام!
كُنّا نزورُه في سجنِه البعيد، كانَ يبتسمُ لي من فوقِ أكتافِ الأهلِ والأصدقاءِ حتَّى قرَّرَ أبي أن يعقدَ قرانَنا في إحدى الزيارات، وبُعَيد العقدِ كانَ لنا أن نُترَكَ وحدَنا، وحدَنا من أهلِنا لا من السجناءِ وأهليهم، ما إن تُركنا حتَّى جرتِ الدموعُ على خدِّي، تلقَّفَها بكفِّه النُّورِ وأسرعَ يربتُ على ظهري كما يُسارعُ أبٌ بالرَّبتِ على ظهرِ صغيرِه إذا وقعَ كأنَّه يستبقُ بُكاءه وألمَه ويُدافعُهما.
كُنَّا طعنَّا على حُكمِ إعدامِه وقدَّمنا أدلَّةً وشهودا، لكنَّا ذاتَ صباحٍ تلقَّينا -أو أنِّي أنا تلقَّيتُ في بيتِ أُمِّه التي كُنتُ أبيتُ عندَها تلكَ الليلةِ- اتصالًا هاتفيًا قيلَ لنا فيه: تسلَّموا جُثمانَ المدعوِّ عبدِ الحيِّ عبدِ الواحدِ من مَشرحةِ المدينة!
لا أدري ماذا أقولُ لأقولَ لكِ، لكن لا كتبَها اللهُ على بشر، أُمُّه الفارعةُ فورَ أن كُشفَ لها وجهُه الذي سكنَ سكينةَ الموتِ خرَّت مكانَها والتحقت به في ملكوتِه، وأنا؟ أنا إن متُّ مَن سيبكي عبدَ الحيِّ ويذكرُه ويحزنُ عليه ويُبلِّلُ بفقدِه مناديلَ أهلِ البلدِ كُلِّها حتّى لا ينسى البلدُ رأسَه الذي راحَ فجأةً ذاتَ صباحٍ أسود؟
إنَّ عساكرَ الشُّرطةِ وصغارَ المُتمرِّغينَ في تُرابِ المِيري ليسوا مساكينَ -يا بنت- كما قد يُظنّ، إنَّهم لمَّا صرختِ النِّساءُ من أهلِ عبدِ الحيِّ قالَ واحدٌ منهم: “الجنازةُ حرَّى والمَيِّتُ كلب” فضحكَ البقيَّة، عبدُ الحيِّ لم يكُن كلبًا يا بنت، كان -يا حبيبي- زَينَ الشَّبابِ وغُرَّةَ القوم.
يا بنت؛ إنَّ وراءَ ليلتِنا هذه أيَّامًا ولياليَ سودًا لا يطيقُ فيها جنبُ أحدٍ فراشا، فإذا أردتِ أن تنأيْ بنفسِكِ عن تلك اللعنةِ فحدِّثي أحدًا حديثي هذا مُصدِّقةً به من قلبِك وغاضبةً به، وسينجو كُلُّ من يُصدِّقُ أنَّ عبدَ الحيِّ وآلافًا مثلَه قُتلوا قبلَ سنين ظُلمًا ويغضبُ للدمِ المعصوم.
عندما طلعَ صباحُ تلك الليلةِ لم ترَ نساءُ البلدِ السِّتَّ نوَّارةَ تنشرُ قميصَ عبدِ الحيِّ فوقَ سطوحِها، وعندما طرقتُ بابَها وقد صحت لتوِّها الشَّمسُ لم تُجب، كسرَ الرِّجالُ البابَ لنجدَ العجوزَ ميِّتةً على كُرسيِّها في صالةِ البَيتِ تحتضنُ القميص، فعرفتُ أنَّ زمانَ اللعنةِ أقبلَ لأنَّ أهلَ البلدِ لا يذكرونَ مَن قُتلوا ظُلمًا ولم يعُد يهتمُّ لسيرتِهم أحد.
في الليلِ لم ينَم أحد، لقد جاءَ الليلُ وَسِخًا كما حذَّرتِ الخالةُ التي دُفِن قميصُها معها، وفي الصَّباحِ تحاكى أهلُ البلدِ واتَّفقتْ حكاياتُهم أنَّهم ما إن ينتصف الليلُ حتَّى يروا السَّماءَ مشانق ويسمعوا أصواتَ خشَبَ الطَّبالي وهي تُفتحُ لتتدّلى الأجسادُ وتتأرجح، أنا لم أرَ أبدًا ما يراه أهلُ البلد، لكنَّني عندما أُعاينُ الرُّعبَ في قسماتِ وجوهِهم أسألُ نفسي: تُرى كيفَ كانت تغسلُ السِّتُّ نوَّارةُ الليلَ بقميصِ عبد الحيِّ لتُخلِّصَ منه هذا الكابوسَ المُرعب؟ وما الذي بينَ هؤلاءِ النَّاسِ وبينَ الحقيقةِ حتى لا يغضبوا بها فتزولَ اللعنة؟