من لا يقرأ التاريخ يجازف بتكراره ,و لأننا تعودنا تجاهل دراسة أحداث التاريخ , فلطالما اكتوينا بتكرار مآسيه , نقول ذلك و نحن نرى كم تغلغل الصراع فى بلادنا و نقلب فى صفحات تاريخية لحقب ماضية لنشاهد التشابه فى الاحداث الجارية و ما جرى فى العديد من مراحل تاريخية سابقة , حيث كانت خسائرنا دائما نتيجة مباشرة لنزاعاتنا و تناحرنا داخليا , يظهر ذلك جليا بين سقوط غرناطة فى الماضى و سقوط ما بقى من فلسطين و القدس امام أعيننا فى الحاضر.
أبرز وجه التشابه بين الحالتين هو صراع مصرى تركى استنفر ورائه كل الهالم العربى تقريبا و كل تخندق حول من رأى مصلحته معه , و تركنا كل قضاينا السياسية الرئيسية وراء ظهورنا .
و بالقاء نظرة سريعا على الاحداث منذ فتح الأندلس حتى سقوطه يتلخص فى ظهور الاندلس بعد الفتح فى دولة قوية سياسيا و متماسكة أثناء الحكم الأموى , ومنارة حضارية باعتراف الجميع , تلتها تفكك و تشرذم فى فترة حكم ملوك الطوائف مما أعطى الفرصة للمالك الأوربية إلى شن حروب الاسترداد على مدى القرون التالية مستغلة انشغال ملوك الطوائف فى صراعها الداخلى و تواطئهم ضد بعضهم البعض لصالح الغزاة الأوربيون , كان ذلك نصف الصورة لمن يشاهد الأحداث تلك الفترة , و كان النصف الآخر من الصورة مجاهدين مغاربة على الساحل المقابل من البحر كانوا دائما المدد و النجدة لاستنقاذ الاندلس من الغزوات المتكررة , على يد رجال أفذاذ توالوا على حكم المغرب من مرابطين و موحدين و حفصيين و غيرهم من الدول, إلى أن انتقل فيرس التناحر و التقاتل إلى المغرب ذاته , و كانت آخر ممالك المسلمين فى الاندلس ممثلة فى دولة غرناطة تواجه مصير أخواتها اللائى سبقوها سقوطا , و لما لم يكن يسع حكام المغرب نجدتهم , فكانت رسالة الاستغاثة هذه المرة إلى بقاع أبعد ممثلة فى دولتى المماليك و العثمانيين أقوى دول العالم الاسلامى وقتها و التين كانتا الأمل الوحيد لاستقاذ ما بقى من الاندلس , و لكن كان المصاب الجلل أن الدولتين كانا يموجان فى صراع بينها أيهما يحكم قبضته و نفوذه على الشرق الاسلامى كاملا له دون غيره , و كانا الطرفين خرجا لتوهما من معارك مهلكة لكليهما فى أضنة و شمال الشام , فلم يكن السلطان المملوكى قايتباى الحاكم المصرى وقتها بمن يجازف بنقل جيشه إلى الأندلس تاركا حدوده مكشوفة أمام العثمانيين , و لا السلطان العثمانى بايزيد كانت تمثل الأندلس له أولوية خاصة مع صراعه الداخلى على الحكم مع أخيه المتمرد جم و نزاعه الخارجى مع المماليك , وهكذا كان سقوط غرناطة قدرا محتوما فى ظل تنافس قصير النظر بين الدول الاسلامية و تناحرها بعضها البعض .
كان النموذج الثانى لنتائج الصراع المصرى التركى هو سقوط الجزائر سنة 1831 حينما كان محمد على يرى نفسه الأحق بوراثة الدولة العثمانية , و كانت الدولة العثمانية نخرها الفساد و الاضمحلال و لم تعد تولى امصارها الاهتمام و الحماية , و دخلا الاثنين فى صراع مريع لعقد كامل من الزمن لا يتسع المقال لسرده , حينها استتغلت فرنسا الانشغال المصرى التركى و استعمرت الجزائر استعمارا مقيتا ل 130 عاما .
عندما نستذكر تلك الاحداث و نقارنها بالأحداث التى طفت على السطح فى العالم العربى فى الفترة الحالية نشهد تشابه عجيب بين الحالتين فنحن أما مشهدين رئيسسن أولهما هو الصراع بين القوى التى برزت بعد أحداث الربيع العربى متمثلة فى التيارات المتأسلمة و داعموها من الخارج و القوى التقليدية القديمة التى أرقتها الأوضاع المقلقة لنظمها و طبيعة حكمها بعد زلزال الثورات العربية , و صارت الأراضى الليبية مسرحا لصراعهما .
المشهد الثانى هو التحرك الاسرائيلى المتسارع فى فرض أمر واقع جديد على الأرض بضم الجولان و القدس كأمر واقع و تناول أكبر وجبة ممكنة من الضفة الغربية لأنها تعلم أن أوضاع المنطقة حاليا تقدم لها فرصة قلما يجود الزمان بمثلها.
من المقارنة البسيطة بين الأحداث الحالية و تلك التى جرت ابان سقوط غرناطة , نجد نفس السيناريو المتكرر و الذى نعانى منه فى عالمنا العربى و الاسلامى طوال الحقب الماضية , سيناريو يتلخص فى فقدان البوصلة الصحيحة و بدلا من التوجه إلى هدفنا المشترك , نستبدل ذلك بتوجيه دفة الصراع ناحية بعضنا البعض فى حين أن عدونا الحقيقى يسابق الريح لاستغلال الأحداث الجارية لتحقيق أكبر قدر من المكاسب.
و الناظر إلى المشكلة فى ليبيا و التى يحشد الجميع خلف طرفى الصراع فيها نجد أن الحل أبسط من كل ذلك التنازع إذا حسنت النوايا , فليبيا بوضعها الجغرافى و السكانى ليست بالأمة القابلة للوصاية , و كيف ينبغى للشعب الليبى أن يكون قابلا للوصايا لأى من الدول شرقا و غربا , فمن الناحية الاقتصادية فهو بلد يمتلك من الثروات النفطية ما يسر لشعبها الحياة الكريمة لعقود مضت قبل الأزمات الأخيرة , و كان له كلمة مسموعة فى محيطها الاقليمى و العالم , و من الناحية السكانية فهى بلد يجمع سكانه أكثر ما يفرقه فكلهم على دين واحد هو الاسلام و على مذهب واحد هو أهل السنة , و خليط من القبائل المتعايشة تربطها علاقات متشعبة من النسب و التجاور و المصالح المشتركة , فالشاهد أن ليبيا ليست أمام صراع عرقى أو مذهبى حتى يتم المتاجرة به فى الخطابات السياسية الداخلية للدول كما حدث فى دول عربية أخرى أبرزها سوريا , و حتى حديث الرئيس التركى الداخلى عن استنقاذ بقايا القومية التركية التى تعيش فى ليبيا و استنقاذ ارث اتاتورك كما ينادى فهو أمر مثير للاستغراب فلم نسمع يوما عن أى فصيل ليبى مضطهد إلان أو فيما مضى , فالمسألة الليبية ليست أكثر من مجرد طموحات داخلية و مصالح خارجية .
و لماذا لا يلقى الأمر برمته بين يدى الشعب الليبى فى اطار استفتاء أو انتخابات تحت رقابة محايدة و على الليبيين – و هم فقط – أن يختاروا من يدير أمورهم و يحكمهم , و لسنا فى مصر أصحاب مصلحة فى دعم نصف ليبيا و خسارة نصفها الآخر , لا يعنينا إلا عودة العلاقات الودية و الأخوية بين البلدين , و أن تكون الحكومة الليبية القادمة عضدا لنا ضد طوفان الارهاب و السلاح المتدفق بلا رادع إلى الأراضى المصرية قادما من ليبيا , و الذى ظهر جليا تأثيره على الأمن القومى المصرى فى السنوات القليلة الماضية , و أعتقد أن التعامل مع حكومة مركزية قوية و رشيدة فى ليبيا سيكفينا ذلك الخطر , فأيا كان اتجاه و هوى الحكومة الليبية القادمة فلن تغامر بمناكفة مصر و التصادم معها و هى تعلم تماما حجم و تأثير مصر الاقليمى.
أما من يتذرعون بطموحات النظام التركى و أحلامه فى استعادة أمجاد عثمانية على أنقاض الدول العربية , فإن هذه السياسات مآلها معروف و نهايتها خراب على من سعى فيها , و حينها سيتحرك الشعب التركى ذاته للتخلص من أى سياسة تلحق به الضرر , و علينا فقط التحلى ببعض الصبر و ابراز الحقائق لكل المجتمعات الاسلامية.
و لكل من يصبون الزيت على النار فرحين مستبشرين للتقاتل بين مصر و تركيا اذكرهم بما ذكرناه فى أول المقال و نذكرهم أيضا بأننا جميعا خاسرون , و لن يستفيد من تناحرنا غير اسرائيل و قد تقاتلت مصر و تركيا مرات عديدة نالنا فيها حلاوة النصر أو منينا بمرارة الهزيمة ,و لكن من الجهة الأخرى كانت دائما انتكاسة كبيرة لعالمنا الاسلامى أضعنا فيها دولا بأكملها , فليتنا نعتبر حتى لا نشهد غرناطة جديدة تسقط أمام أعيننا.