الأدب و الأدباء

“قل يا أيها العابرون لم يبق لي شيء” بقلم/عاطف أحمد إبراهيم

بالخطأ بينما كنت أمسح عيني إخترق طرف إبهامي عيني وتسبب في سريان الدموع ، مسحتها مرة بعد مرة إلا أن أثرها وبقايا قطراتها ظلت تحت عيني ، لم أنتبه وأنا أمسح دموعي لمرور أمي التي أسرعت إليّ متساءلة عن سبب دموعي . لم تصدّق أمي أن دموعي تسبب بها إبهامي بالخطأ وأخبرتني أنها تعلم سبب بكائي إذ أن أبي قد إشترى الإسبوع الماضي ألعابًا جديدة وملابسًا جديدة لأخي الأصغر ولم يشترِ لي شيء . كل محاولاتي لإقناع أمي بالحقيقة لم تنجح ، كما لم تصدّق أمي أني لا أبالي بألعاب وملابس أخي الجديدة فأنا أمتلك ملابس تكفيني ولست بحاجة لألعاب كأخي الصغير . بعد ما حضر أبي رأيتها تحادثه بعيدًا ، أدركت أنها تخبره ما تظن بشأن دموعي فشعرت بالضيق الشديد مما تفعله أمي ، أعرف الآن كيف يفكر بي أبي الذي أتاني حينها ونظر لي نظرة لن أنساها ما حييت ثم قال : ” عبدالرحمن حبيبي ، لم أخالك هكذا ؛ ظننتك تجاوزت هذه الأمور ، ولكن لا تقلق فأنا أعِدُ لك مفاجأة ” . لم أدافع حتى عن نفسي أمام نظرة أبي لي لربما لم تعطيني نظراته الفرصة أو ربما لم أكن بالقدير على الدفاع أمام نظراته تلك . جاء يوم عُطلة أبي عن عمله ، أخبرني أنه سيذهب ليُحضِر مفاجأته لي وسيأخذ أمي معه وأخذوا أخي الأصغر لأني لن أبقى بالبيت وسأذهب لأحد معلمي الصف مع زملائي ككل إسبوع بعد أن أخبرني أبي أني سأعرف المفاجأة ريثما أعود . كان درس معلمي طويلًا تلك المرة على غير عادته ، او ربما أنا من شعرت بالطول وحدي ، إنتهى على كل حال وعدت لبيتي لأجد الباب مفتوحًا ، دخلت مسرعًا ، وجدت بالداخل جارنا المقابل الأستاذ ” وحيد ” وزوجته وجيراننا بالأعلى كذلك وإمتلأ البيت بالجيران والمعارف . تلاقت أعيننا أنا وجارنا ، نظرتي أنا مندهشة متسائلة ونظرته هو غريبة لم أرها من قبل .. تلك نظرة أخرى لن أنساها . بدأ كلامه بمقدمة طويلة جدًا ، سمعت كل كلمات المقدمة .. الكثير من الكلمات .. الكثير من الوقفات بين الكلمات للتفكير في الكلمات التاليات ، لم أفهم منها شيئا ؛ منعتني حداثة عمري من الفهم . كان ما فهمته قليل جدًا مقارنةً بكل الكثير الذي قِيل . كل ما فهمته كان جملته الأخيرة : ” أبوك وأمك وأخوك ماتوا في حادثة على الطريق …

” توقفت قدمي عن الإهتزاز – كعادتي – عندما أكون متوترًا ؛ ربما لأنه إنتهى وقت التوتر وحان وقت شيء آخر .. شيء لا أجيد الشعور به ولم أعتده . إنه وقت المفاجأة .. ليست المفاجأة التي عناها أبي إلا أنها مفاجأة .. أخيرًا توقف جاري عن الكلام وتوقفت يده عن الربت على كتفي بالضبط كما توقفت قدماي عن الإهتزاز .. بالضبط كما توقف كل متحرك عن حركته ليلقى سكونه .. بالضبط كما توقف الزمن .. قبل دقائق كان معلمي يخبرني أن الزمن لا يتوقف .. إلا أنه توقف ، ليست المشكلة أنه توقف ، المشكلة أني أعلم أنه لن يتحرك مجددًا ، كذب عليّ معلمي بالضبط كما كذب عليّ أبي وكلاهما بدون قصد ، بالضبط كما إبتسمت أنا – بدون قصد – عندما وجدت ملابس أخي وألعابه الجديدة … و أدركت حينها أن هذه آخر بسمة لي . ألعاب أخي وملابسه الجديدة يا أمي !!! .. حسنًا يا أمي لقد تحوّل كل شيء إلي جديد .. تبدلت النظرات لنظرات جديدة ؛ ربما لا تليق القديمة بيتيم مثلي . الكلمات أيضًا .. والدموع ، هذه هي دموعي الجديدة يا أمي . ما زال الوقت يقف هناك ، تشرق الشمس فتزاور عن قلبي ذات اليمين وإذا غربت تقرضه ذات الشمال فلا يرى قلبي الشمس أبدًا ولا يفقه شيئًا عن الوقت . الآن بعد مرور أربع سنوات في دار أيتام أصبح لديّ حصيلة رائعة ، ثروة كبيرة من الكلمات .. النظرات .. والدموع . سمعت الكثير من الكلمات الجديدة إلا أنها كلها لم يكن وقعها مثل جملة ” أبوك وأمك وأخوك ماتوا في حادثة على الطريق … ” رأيت العديد من النظرات الجديدة إلا أن كلها لم تكن بقسوة نظرة أبي تلك . جربت أنواعًا عديدة من الدموع كلها كريهة إلا أن أسوأها على الإطلاق تلك الدموع التي تسبب بها إبهامي بالخطأ .

زر الذهاب إلى الأعلى