بقلم المهندس/ طارق بدراوى
تزخر مصر بالعديد من القصور الملكية والتى قام ببنائها محمد على باشا والملوك والأمراء من أسرته الذين جاءوا من بعده وذلك بداية من أوائل القرن التاسع عشر وحتي بدايات القرن العشرين الماضي منها قصرا الجوهرة بالقلعة وقصر محمد علي باشا بشبرا الخيمة وقصر عابدين وقصر القبة وقصر الجزيرة وقصر الزعفران وقصر الطاهرة وقصر الأمير محمد علي توفيق وقصر الأمير يوسف كمال وقصر سعيد باشا حليم وركن الملك فاروق بالقاهرة وقصر رأس التين وقصر المنتزة وقصر الصفا بالإسكندرية ويعد قصر عابدين أحد أهم هذه القصور فقد كان مقرا لحكم البلاد فى الفترة من عام 1874م وحتى قيام الثورة المصرية فى 23 يوليو عام 1952م وكانت هذه هي المرة الأولي منذ عصر الدولة الأيوبية التي يترك فيها حاكم مصر قلعة الجبل الحصينة وينزل إلي قلب القاهرة ليعيش وسط شعبه وقد تحول قصر عابدين بعد ذلك وبقرار من مجلس قيادة الثورة إلى أحد القصور الرئاسية .
وقد شهد قصر عابدين الكثير من الأمور والأحداث التاريخية فى عصر مصر الحديثة وكانت البداية عندما أمر الخديوى إسماعيل فور توليه حكم مصر عام 1863م ببنائه وكان مقاما على الأرض التى يحتلها القصر الآن قصرا قديما ملكا لأرملة عابدين بك أحد القادة العسكريين فى عهد محمد على باشا والذى قام الخديوى إسماعيل بشرائه من تلك الأرملة ليقوم بعد ذلك بهدم القصر القديم وشراء بعض الأراضى المحيطة به لكي يصبح إجمالي مساحة القصر 24 فدانا وليتوج كل هذا ببناء قصر عابدين الحالي ليكون آية فى الجمال والفن المعمارى وقد صمم القصر المهندس الفرنسي دي كوريل روسو وقد بدأ البناء فيه عام 1863م وإستغرق بناؤه عشر سنوات تقريبا وتم إفتتاحه عام 1874م وقدرت تكاليف بنائه حينذاك 100 ألأف جنيه ذهبية ويعد بناء قصر عابدين بداية لظهور القاهرة الحديثة ففي نفس الوقت الذي كان يتم فيه بناء القصر أمر الخديوي إسماعيل بتخطيط القاهرة على النمط الأوروبي الحديث بحيث تشمل ميادين فسيحة وشوارع واسعة وقصور ومبان وجسور على النيل وحدائق مليئة بالأشجاروأنواع النخيل والنباتات النادرة حيث تم إنشاء ميدان عابدين وميدان العتبة وميدان الأوبرا وميدان الإسماعيلية سابقا التحرير حاليا وتم شق شارع إبراهيم باشا سابقا الجمهورية حاليا وشارع عبد العزيز كما تم إنشاء حديقة الأزبكية حديقة الحيوان بالجيزة وحديقة الأسماك بالزمالك ومازال هذا القصر يحمل حتى وقتنا هذا إسم قصر عابدين نسبة إلى عابدين بك صاحب الملكية الأصلية للأرض التي أقيم عليها القصر حيث أبقي الخديوى إسماعيل ومن جاء بعده من الحكام علي إسم صاحب القصر القديم ولم يقوموا بتغييره .
ويتكون قصر عابدين من طابقين يشتمل الطابق العلوي على السلاملك والحرملك أما الطابق الأرضي فيضم حديقة القصر وصيدلية زاخرة بالأدوية النادرة وفي مواجهتها المطبعة الملكية السابقة وإدارتها كما يضم مكتبا للملك فاروق كان يتناول فيه أشهر المأكولات الساخنة ويضم كذلك ورشة المكوجية الحكومية والخاصة ومقر الحرس ومكاتب التشريفة والمخازن والخدم وعلى عكس القصور الأخرى يجمع قصر عابدين بين الحرملك والسلاملك في مبنى واحد وهو ما يعد مخالفا للتقاليد التي كانت متبعة حينذاك في تصميم القصور في مصر وإسطنبول وتعد أشهر وأضخم بوابات القصر باب باريس وهذا الباب يؤدى إلى المدخل الرئيسي للحرملك وجاءت التسمية نسبة إلى الإمبراطورة الفرنسية أوجينى زوجة إمبراطور فرنسا نابليون الثالث التي دعاها الخديوى إسماعيل لتكون ضيفة الشرف في إحتفال إفتتاح قناة السويس للملاحة في شهر نوفمبر عام 1869م وبعد بناء القصر قرر الخديوي إسماعيل تمليك القصر إلى زوجاته الثلاثة ولكن عندما تم خلع الخديوى إسماعيل عن عرش مصر ونفيه إلي إيطاليا أواخر شهر يونيو عام 1879م أصدر الخديوي توفيق خليفته قانونا رسميا ينص على أن القصور الرسمية كلها هي ملكية منفردة لمصر وينبغي أن تظل محلا لإقامة الأسرة المالكة دون أن تكون ملكا لها.
هذا ويضم قصر عابدين عددا كبيرا من الغرف والقاعات يصل عددها إلى 500 غرفة وجناح وقاعة إلي جانب مكتبة ضخمة تضم ما يقرب من 55 ألف كتاب إلي جانب العديد من الكتب والمخطوطات النادرة كما يشمل القصر أطقما مذهبة من الأثاث منقوشا عليها أسماء ملوك مصر ويوجد في الدور الأول من القصر صالونان سمي كل منها بلون جدرانه فهناك الصالون الأبيض والصالون الأحمر وهما مخصصان لإستقبال الوفود الرسمية ويؤدي أحدهما إلى صالون قناة السويس الذي أنشئ ليتم الإحتفال فيه بإفتتاح قناة السويس ولكن لم يتم هذا الإحتفال فيه لعدم الإنتهاء من بناء القصر وقت إفتتاح القناة للملاحة وهذا الصالون يؤدي إلى الشرفة المؤدية إلى ميدان عابدين وتعتبر قاعة محمد علي من أكبر قاعات القصر وأفخمها علي الإطلاق وهى عبارة عن قاعة فسيحة تم بناؤها على الطراز العربى الإسلامى وتتميز بدقة نقوشها المطعمة بالرخام والجرانيت والكهرمان وأرضيتها من الباركيه ولها بها باب يفصلها عن قاعة أخرى هى قاعة الحرملك وقديما كان لايدخل هذه القاعة إلا كبار القوم ذوى المناصب الرفيعة وأمامها يوجد المسرح الذي يعد تحفة فنية لا مثيل لها في ذلك الوقت وقد سمي بالقاعة الذهبية والتى تم بناءها لتبدو كما لو كانت مسرحا فالخديوى إسماعيل كان مشهورا بحبه للفن المسرحى وخصوصا الأوبرالى ويوجد أمام باب المسرح حاليا مجموعة آلات موسيقية تخص الملكة نازلي زوجة الملك فؤاد الأول وأم الملك فاروق آخر ملوك مصر ومن قاعة العرش أيضا يبدأ ممر طويل يقود إلى جناح الملك المفروش بأفخر أنواع السجاد ويتكون الجناح من عدة غرف إحداها مكتب وأخرى صالون ثم حجرة النوم والحمام وجناحا الملكة والملكة الوالدة نازلى .
وقد غطيت ممرات القصر بالرخام الحر المطعم بالمرمر كما تم نقش وزخرفة الأسقف علي يد أشهر الفنانين والرسامين فى العالم والتى غلب عليها مزيج من الطابع الإسلامى الممتزج بالفن الإيطالى الأشهر آنذاك أما الأبواب والنوافذ فصنعت من الزجاج الملون الذى رسمت عليه لوحات ملونة لأشجار وبحار وملائكة وطيور وبالدور العلوى من القصر عدد من الأجنحة منها الجناح البلجيكى وهو من الأماكن المميزة فى القصر نظرا للطريقة المعمارية والزخرفية التى تم بناؤه بها وقد سمى الجناح البلجيكى بهذا الإسم نظرا لأن ملك بلحيكا ألبرت الأول كان أول من أقام فيه ثم صار بعد ذلك مخصصا لإقامة ضيوف مصر المهمين ولايمكن أن نغفل الدور التاريخى لأبناء وأحفاد الخديوى إسماعيل فى الحفاظ على القصر وترميمه وخصوصا الخديوى توفيق الذى قام بتحديث متحف الأسلحة الذى تم إنشاؤه بالقصر لكي يتم حفظ الأسلحة المختلفة التي تم إهداؤها إلي حكام وملوك مصر وإستخدام أحدث الطرق الموجودة آنذاك فى عرضها وتنسيقها كما قام بإنشاء المتحف الثانى بالقصر والذى خصص لعرض مقتنيات أسرة محمد على باشا من تحف نادرة ومشغولات ذهبية فريدة وأدوات وأوان مصنوعة من الفضة والكريستال والبلور الملون والتحف ولوحات نادرة والتي تعتبر من الكنوز التي لا تقدر بثمن وقد تعاقب على شرائها وجمعها كل الحكام الذين سكنوا القصر .
وقد شهد قصر عابدين العديد من الأحداث السياسية الساخنة نذكر منها الحادث الأول مظاهرة عابدين صباح يوم الجمعة 9 سبتمبر عام 1881م التي قام بها بعض رجال الجيش المصرى بقيادة الزعيم أحمد عرابى باشا حيث قاموا بالتوجه إلى قصر عابدين لعرض مطالب الجيش والشعب على الخديوى توفيق حاكم مصر آنذاك والذى قابل هذه المطالب بإستنكار تام مؤكدا أنه ورث هذا الشعب وهذه البلاد ولايحق لأحد المطالبة بأى حقوق وهنا ثار عرابى وقال قولته المشهورة لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقارا فوالله الذى لا إله إلا هو إننا لن نستعبد بعد اليوم وكان الحدث الثاني عندما شهد الميدان المواجه للقصر بدايات ثورة عام 1919م عندما ملأت الجماهير ميدان عابدين مطالبة الملك فؤاد الأول ملك مصر آنذاك بالإفراج عن سعد زغلول باشا ورفاقه وعودتهم من المنفى وكان الحادث الثالث فى يوم 4 فبراير عام 1942م اثناء الحرب العالمية الثانية وكان موقف القوات الإنجليزية حرجا بعدما تلقت العديد من الهزائم المتتالية في جبهة شمال أفريقيا علي يد الفيلق الأفريقي الألماني الذى كان يقوده القائد الألماني الفذ الفيلد مارشال ثعلب الصحراء إرفين روميل وسارت المظاهرات في مصر منددة بالإنجليز وتهتف إلي الأمام ياروميل مما تسبب في إزعاج شديد للإنجليز وبعد التشاور مع وزير الخارجية البريطاني في لندن أخذ السفير البريطاني في مصر السير مايلز لامبسون الضوء الأخضر بإستخدام القوة إن لزم الأمر من أجل تهدئة الجبهة الداخلية وضرورة وجود حكومة شعبية قوية تستطيع أن السيطرة علي الجبهة الداخلية حتي يتفرغ الإنجليز لجبهة القتال مع الألمان غرب مصر وهنا تحرك السفير وحاصر الإنجليز القصر بالدبابات ودخل السفير البريطاني يصاحبه قائد قوات الإحتلال الإنجليزى في مصر القصر وهددا الملك فاروق ملك مصر آنذاك بخلعه عن عرش مصر إذا لم يكلف مصطفى النحاس باشا بتولى رئاسة الوزراء وتشكيل الحكومة وكانت النتيجة رضوخ الملك فاروق إلى طلبات الإحتلال الإنجليزى وتكليفه للنحاس باشا بتشكيل الوزارة وكان الحادث الرابع الأزمة التي نشبت بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر والتي عرفت بأزمة مارس عام 1954م بعد قيام الثورة حيث شهد هذا العام تقديم محمد نجيب إستقالته في يوم 25 فبراير عام 1954م ولما تراجع عنها عاد للقصر ووقف بالشرفة وإلتف حوله المتظاهرون حينذاك .
ويضم قصر عابدين حاليا خمسة متاحف منها المتحف الحربي وضريح معروف بإسم ضريح سيدي بدران وله باب على ساحة النافورة وسيدي بدران هو أحد أولياء الله الصالحين وكان موجودا قبل بناء القصر ٕوقد أمر الخديوى إسماعيل بعدم إزالته وإدخاله ضمن تصميمات القصر ثم يأتي متحف الأسلحة ويضم قسم للأسلحة البيضاء التي أخرجتها أيدي صناع مهرة من بلاد العالم الإسلامي وأوروبا من عصور مختلفة ثم متحف الفضيات الذي يعرض نفائس أسرة محمد علي باشا من الفضيات والصيني والكريستالات وأخيرا يوجد متحف للوثائق التاريخية وهو أحـدث المـتاحـف التي إفـتـتحـت في قـصـر عابدين فـقد تم إفتتاحه في عام 2004م ويحتوي هذا المتحف علي عدة وثائق تاريخية هامة من عهد محمد علي باشا وحتى الملك فاروق الأول آخر ملوك مصر ولعل من أهم المعروضات بهذا المتحف فرمان صادر من السلطان عبد العزيز خان في عام 1279 هجرية الموافق عام 1863م يتضمن توجيه ولاية مصر وملحقاتها إلي إسماعيل باشا هذا بالإضافة الي ألبوم صور يحتوي علي صور زيارة ولي عهد إيران الأمير محمد رضا بهلوى لمصر وزواجه من شقيقة الملك فاروق الأميرة فوزية والسجل الخاص بعقد زواج الملك فاروق الأول ملك مصر من الملكة فريدة بتاريخ يوم 20 يناير عام 1938م كذا إشهاد الطلاق علي نفس الوثيقة بتاريخ يوم 17 نوفمبرعام 1948م وأيضا السجل الخاص بعقد زواج صاحب السمو الإمبراطوري محمد رضا بهلوي ولي عهد إيران من صاحبة السمو الملكي الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق بتاريخ يوم 15 مارس عام 1939م وكذا إشهاد الطلاق علي نفس الوثيقة بتاريخ يوم 16 أكتوبر عام 1948م .