لا شكَّ أنَّ المثل الشعبي: “ياما في السجن مظاليم”، ينطبق على حالات كثيرة في العالم عموماً، والعربي خصوصاً؛ لأنَّ القانون أعمى لا يرى الظلم، كما يقول القانونيون، ومثال على ذلك القصة التالية التي وقعت في ولاية أوهايو الأميركية عام 1975، عندما أقدم ثلاثة لصوص على سلب وقتل موظف شركة صرافة اسمه هاري فرانكس، وكان ما يحمله من مال لا يتعدى 425 دولاراً.
يومها كان الطفل إيدي فيرنون (12 عاماً) الشاهد الوحيد في القضية، وقد استندت المحكمة إلى أقواله في اتهام كل من كوامي أجاومو (17 عاماً)، وشقيقه (20 عاماً)، وصديقهما (19عاماً)، وأصدرت حكمها بإعدام الثلاثة، خففته لاحقاً إلى المؤبد.
قبع الشباب خلف القضبان حتى العام 2014، عندما فتح الصحافي كايل سوينسون ملف القضية، في تحقيق حول الثغرات في القوانين الأميركية، التي يُظلم أبرياء بسببها، ونشره في مجلة “المشهد” الصادرة في ولاية أوهايو، وكان لهذا التقرير أثر كبير على الرأي العام، ما دفع إلى إعادة محاكمة الثلاثة.
في تلك الأثناء، كان فيرنون قد أصبح رجلاً بالغاً، وكشفت أوراق القضية عن تراجعه في شهادته ضد المدانين، وقال بشهادة خطية: إن شرطة كليفلاند أجبرته على الاعتراف ضدهم، وحينما برأت القاضية باميلا باركر المتهم كوامي أجاومو، إذ كان الوحيد الذي ينظر في طلبه للإفراج المشروط، قالت: إنها ترفض كل الاتهامات، فيما اعترف المدعي العام أن الرجال الثلاثة أُدينوا في عام 1975 بتهمة قتل لم يرتكبوها، “وهم كانوا ضحايا لظلم فظيع”، مُعلناً قبوله بتعويض مالي للمُدانين الأبرياء.
بعد تلاوة حكم البراءة أجهش كوامي أجاومو بالبكاء، وتعاطفت معه باركر، التي تركت قوس المحكمة وتقدمت منه باكية وعانقته وأخذت تواسيه، فقد استغرق الأمر 39 عاماً لاكتشاف براءة رجل لم يرتكب أي جريمة، حينها قال أجاومو ودموعه تغالبه أمام الموجودين في القاعة: “أشعر بسعادة غامرة؛ لأن هذه الغرفة مضاءة بالحقيقة”.
أضاف: “آمل ألا نضطر للانتظار أربعين سنة أخرى من أجل كوامي أجاومو القادم، وإيلي بريدغمان، وريكي جاكسون، وأتمنى من اليوم أن نتوقف عن تجاهل ما هو واضح في نظام العدالة الجنائية”، كما شكر الصحافي سوينسون على إنقاذه أخيراً من السجن.
سألت القاضية أجاومو إذا كان يطلب تعويضاً مالياً، فقال باكيا: “كل ما أريده هو مراجعة القوانين التي تسببت في حبسنا، فهذا الظلم سلبني وأخي وصديقي حياتنا، وأعمارنا، وقتل فرحنا، وحتى اليوم لم يكن لأي منا عائلة”.
أضاف: “كنت أحلم أن أصبح محامياً أدافع عن المظلومين، لكن حياتي أُهدرت بسبب قانون لا يرحم، لذلك أطلب من عدالة المحكمة أن يصار إلى تعديل القانون كي لا يُظلم أي إنسان آخر”.
خارج القاعة، سأله الصحافيون عن شعوره فأجاب: “كان بإمكاني أن أكون باراك أوباما، ويمكنني حتى العودة إلى الشاب أجاومو، لكنني لست كذلك، لقد قتلوا شبابي وقتلوا روحي، وكل ما أؤمن به”.
كان للحكم صداه الكبير لدى الرأي العام، خصوصاً تصريحات أجاومو التي هزت البيت الأبيض، وبالفعل أمر الرئيس باراك أوباما يومها بتشكيل هيئة لمراجعة القوانين الأميركية التي يمكن أن يُظلم أحد لمجرد شهادة لا تستند إلى أدلة صلبة ومستندات واضحة، وقد أدت تلك المراجعة إلى إطلاق عشرات المساجين الأميركيين الذين كانوا أُدينوا بتهم لم تستند إلى أدلة.
بعد أسبوع من عودة كوامي إلى الحرية زاره الرئيس أوباما برفقة أسرته في منزله، وتناول معه وجبة عشاء أعدتها زوجة الرئيس، تكريماً له.
وفي بريطانيا ثمة قصة أكثر قساوة، لكن براءة المتهم فيها أتت بعد فوات الأوان، ففي مطلع الألفية الحالية أُعدم البريطاني جورج كيلي بتهمة قتل زوجته سوزان، ولأن الشرطة حين وصلت إلى البيت وجدته يحمل سكيناً فقد وجهت إليه تهمة القتل، وحُكم عليه بالإعدام ونُفذ الحكم في العام 2010، لكن المفاجأة أن بعد خمس سنوات ألقت الشرطة القبض على مجرم كان يغتصب النساء ويقتلهن، واعترف أنه قتل زوجة جورج، وعلى الاثر بدأت الحكومة البريطانية مراجعة القوانين وعدلتها؛ كي لا يُظلم أيُّ إنسان لمجرد الاشتباه.
العِبْرة من ذلك أنَّ ثمَّة أحكاماً تصدر في غالبية الدول العربية لمجرد الاشتباه، أو من أجل ترضية هذا المتنفذ أو ذاك، وأحياناً تكون الشرطة مُتورطة في تزوير التحقيقات وتلفيق القضايا، لأسباب شتى.
لا شكَّ أنَّ القصتين، أعلاه، يجب أن تكونا مثالاً لما يمكن أن يفعله الحاكم المتابع لشؤون شعبه وبلاده، وإذا شعر بظلم مواطن ينتفض كما انتفضت إدارة البيت الأبيض الأميركي أو الحكومة البريطانية لإنصاف المظلومين، لذا على الحكام أن يخرجوا من أبراجهم العاجية، ويستمعوا إلى الناس، فكم بريئاً أُعدم، أو حُكم عليه بالمؤبد، أو حتى بالسجن على الشبهة فقط؛ لأنَّ ميزان العدالة استند إلى قانون أعمى بلا روح.
نروي هذه القصص؛ ليقرأ الحكام الجالسون في الأبراج العاجية، هذا إذا كانوا يقرؤون، ويخافون الله، ولكي تنتفض قصورُهم كما انتفضت قصور الحكم الغربية لرفع الظلم عن أبرياء، وليعدلوا؛ لأنَّ العدلَ أساسُ المُلك.